منذ أكثر من 20 عاما، كنت أشارك في أحد المؤتمرات الإسلامية في أمريكا، وحدث نقاش بيني وبين شاب .. كان سليط اللسان قليل الخبرة والأدب معا. كنت أحدثه عن مكارم الأخلاق وحسن العبارة، واستشهدت ببعض الآيات والأحاديث.
انتفض الشاب الذي كان يرى نفسه هو "الإسلام" ليسألني فجأة بعصبية شديدة: ما هو أكبر مخلوقات الله؟ تعجبت من سؤاله الذي لا علاقة له بنقاشنا أصلا. لكنه أصر، وطلب مني الإجابة بطريقة آمرة، ولهجة من كان على وشك أن يكتشف اكتشافا عظيما.
أضحكني حماسه المبالغ فيه، ثم أجبته لحظتها، وكنت أسمع الإجابة من المسابقات الإسلامية المنتشرة في ذلك الوقت، وليس لعلم عندي أدعيه. أجبته أن أكبر مخلوقات الله هو "عرش الرحمن". ففرح الشاب فرحا عظيما، وقال: إذن أنت فعلا ملتزم أو متدين.. أو شيء من هذا. فقلت له: أنا أتابع المسابقات. فقال بلهجة قاطعة: بل أنت إسلامي! فعدت لأقول له: يا صديقي إنما أنا أجبتك على سؤال واحد، فكيف تحكم به؟ فنظر إلي ثم كرر: أنت إسلامي! وحسم الأمر هكذا!
في أوقات الفتن في تاريخ الأمم، تظهر ظاهرة مرضية بين من يحملون عبء مواجهة الظلم، وهي ظاهرة يمكن تسميتها بـ "أسئلة الإيمان"! إنها تلك الأسئلة التي تستخدم من البعض للتفريق بين الناس، وتصنيفهم من ناحية الإيمان بقضية ما، وفق مزاج فئة ما، في لحظة ما، في مكان ما. إنها اختبارات يفرضها البعض من أجل إقصاء البعض الآخر تحت دعاوى النقاء والطهورية. يعتقد من يفعلون ذلك أنهم حماة القضية، بينما هم في حقيقة الأمر ينفرون من أي قضية!
تمر الثورة المصرية بحالة مشابهة، يتزعمها البعض ممن يضعون اختبارات مرور لتحديد من هو الثائر بحق، أو من هو الوطني فعلا، أو من يستحق أن يضاف إلى هذه النخبة أو تلك. هذه الحالة هي نمط إقصائي مقيت، يستخدم أسئلة افتراضية تضيق دائما مع الوقت، وسيلة لفرض السلطوية والرأي الواحد على مجموعة من البشر المتنوعين والمختلفين أيضا.
البعض يرى نفسه – دون أي مبرر، أو بمبرر وهمي - الحارس المؤتمن على الثورة المصرية، رغم أن أحدا لم ينصبه في هذا المنصب، وقد لا يكون له حتى أدنى المؤهلات التي تؤهل للحكم على الآخرين. مع ذلك، تجد هؤلاء يضعون اختبارات "إيمان ثوري" للبشر. هذه الاختبارات أصبحت تستخدم للإقصاء الممنهج بشكل يريح نفس من يمارسه. هو – سواء كان فردا أو جماعة أو تيارا أو مجموعة - يحدث نفسه أنه ما أقصى فلانا إلا لأنه خطر على الثورة، وخطر على مصر، أو حتى خطر على الدين أو الدنيا، أو الاثنين معا!
من يتابع مؤخرا بعض المبادرات التي تصدر بشكل متواتر داخل الصف الثوري الحائر، يلحظ أن أحد القواسم المشتركة في تلك المبادرات، أنها تتعمد بلباقة عالية إقصاء البعض عبر ما يمكن تسميته أيضا "اختبار الثورة". غالبا هي مواقف يعتمدها أصحاب تلك المبادرات، ويرون أن من ينحاز عنها، أو يخالفهم فيها، إنما هو خطر على المسار الثوري، وقد يصل الحد إلى الاتهام بالعمالة أو بالخيانة لهذا أو ذاك! هذه الاختبارات في الحقيقة تشير إلى ضعف حجة من يفرضونها على الخلق، وقد تكون المعاني صحيحة، وقد تكون الأسئلة أيضا مشروعة، ولكن استخدام "اختبارات الثورة" لإقصاء من لا يعجبنا باسمها فعل قبيح، حتى وإن استخدم أسئلة نبيلة!
وإليكم بعض الأمثلة التي تابعناها جميعا بشكل أو بآخر خلال المرحلة الماضية، التي تعبر في جوهرها عن "اختبارات إيمان" يقصد بها جمع الناس قسرا على رأي مجموعة بعينها، ودون أي مساحة للتفكير أو التحرر أو التوافق الجزئي مثلا. تجلس مع بعض الزملاء من قيادات التيار الإسلامي، أو من بعض قادة الإخوان مثلا، فتجد أن "اختبار الثورة" لديهم يتكون من بعض الأسئلة التالية:
• هل أنت مع الشرعية أم لا؟!
• هل أنت مع الهوية الإسلامية لمصر أم لا؟!
• من انتخبت في الرئاسة، وموقفك من الاستفتاء؟!
• هل تعترض على عودة د. مرسي للحكم؟!
• حضرت جمعة الشريعة أم لا؟!
• المادة الثانية من الدستور.. موقفك؟!
• هل لديك اعتراض على السلمية كمنهج وحيد؟!
• هل لديك أي ميول لهدم الدولة؟!
بناء على إجاباتك على هذه الأسئلة، ودرجة مزايدتك أحيانا في إثبات ولائك التام لها، يتم تحديد طريقة التعامل معك. والمضحك أنك قد توافق على معظم الأسئلة، ولكنك تناقش مثلا في جدوى سؤال منهم.. مجرد نقاش. عندها يبدأ التشكيك مباشرة، يعقبه التشويه، يعقبه التشهير، وهي ثلاثية "تش" الشهيرة! وينبني على ذلك بكل أريحية القرار الأهم والضروري لحماية الثورة: إقصاء وتهميش ذلك الذي تجرأ ليفكر أو يناقش أو يتحرر من أسر مصطلح.
لو انتقلت إلى حديث مثله عن الثورة بين زملاء من قادة التيار الليبرالي، أو قيادات تيار اليسار مثلا، لسمعت أسئلة مختلفة، أو مكررة ولكن بإجابات معاكسة من نوع:
• من الأهل والعشيرة، أم مصري؟!
• هل أنت مشهور، وما هي مؤهلاتك الليبرالية؟!
• هل تستخدم لفظة الهوية؟!
• موقفك من المايوه والخمر والتحرر (بطريق غير مباشر طبعا)؟!
• إوعى تكون حازميون أو حسان؟!
• كنت فين يوم ماسبيرو؟!
• حزب إيه: دستور أم مصريين أم كنبة؟!
• لغتك الإنجليزية كويسة أم لا؟!
• أخبار اللبس .. شيك أم لا؟!
• لمن تقرأ؟!
• 6 إبريل أم "ناشط"؟!
• موقفك من الغرب ومن الحريات هناك، ومن ومن؟!
مجرد التردد أو الاعتراض أو فقط نقاش الأسئلة يؤهلك إلى عبارات كلها فيها "هم" من مثل، "إخواني من الداخل زيهم"، "كلهم كده"، "التطرف في قلوبهم"، "لا تضيع وقتك معهم"، "لا نريدهم". أغرب ما في الموضوع هنا أن الإقصاء يعتمد ابتداء على فكرة "هم" أي صيغة الجمع .. لا تتعامل كفرد إلا نادرا. أنت دائما في نظر بعض هذه القيادات جزء من كل مجهول. وفي النهاية "كلكم" واحد. فكرة أن الاستقلال غير متخيل وغير موجود. بالتالي يصبح أي سؤال ليس إلا لأن هذه هي تعليمات "الجماعة". مرة أخرى تجد أن الإقصاء يرتبط باختبار ثوري عجيب.
ومؤخرا، بدأ ينتشر الاختبار الثالث لـ "أسئلة الإيمان"، وهو اختبار الزملاء من قيادات شباب الثورة، ومن الغاضبين على الفريقين أعلاه، ولهم كل الحق في غضبهم. لكنهم أيضا بدأوا في اختبار الثورة الخاص بهم أيضا، وهو أيضا اختبار إقصاء يبدأ بأسئلة من نمط:
• أين كنت يوم 25 يناير وماذا فعلت؟
• أين كنت يوم كذا أو يوم كذا، وهل رآك أحد؟
• كم عمرك؟
• نزلت محمد محمود، أم كنت في البيت؟
• بردعاوي أم بيادة؟
• إخوان أم متعاطف أم مش منهم بس "بيمثلوك"؟
• كم عدد المتابعين لك في تويتر والفيس؟
• فين صورك أيام الثورة، وكنت بتقعد في قهوة إيه؟
• بتشتم أم لأ؟
بالمنطق نفسه يبدأ أيضا طريق الإقصاء والسخرية والاستهزاء والتهميش. وتبدأ "حفلات" الإهانة لرفقاء الدرب على طريق الثورة، واستخدام أي أدلة وهمية لإثبات أن الاقصاء والتهميش ضرورة من ضرورات حماية الثورة وانتصارها. وتحدث الجرأة التي لا تراعي فرق خبرة أو عمرا أو احتراما. والأسوأ مؤخرا هو تَكَوُّن قوائم وأسئلة إيمان مركبة؛ أي إنها أسئلة مجمعة للإقصاء .. قائمة أسئلة تجمع إسلامي مع ثوري مثلا، أو قائمة ليبرالي ثوري. قوائم وامتحانات إيمان ما أنزل الله بها من سلطان.
الخطورة التي دعت لكتابة هذا المقال، أن ذلك الإقصاء بدأ يتحول إلى منهج مركب ملتو، يستخدم ألفاظا ومصطلحات ظاهرها الخير، ولكنها في النهاية مصطلحات إقصائية بشعة كريهة. ظهر مؤخرا مصطلح "المتطرفون" لوصف رفقاء الثورة ممن يرفضون تمييع استخدام مصطلح "السلمية" مثلا. ظهرت فكرة أن قيادة الثورة ترتبط بشهادة الميلاد، وأن سن الثائر يحدد مكانته القيادية! مصطلح "أدلجة الثورة" أصبح سببا لإقصاء من يريدون وضع مبادئ تمنع التنازل والتفاوض المذل. وغير ذلك.
ليس المقصود بهذا المقال أي تعميم، أو إنقاص من قدر أحد، أو اتهام أي شخص أو مجموعة أو مبادرة. لكن النصح يجب أن يسود كثقافة بيننا، ورفض هذا النمط من التفكير الإقصائي يجب أن نتفق عليه جميعا، ونمنع من يحاول نشره في أي من تلك التيارات، مع كل التقدير لجهود قياداتها.
عندما تبدأ في الاقصاء، سينتهي بك الأمر وحدك، وأنت خاسر، ولكنك تظن نفسك وحدك الثورة، وغيرك ليس إلا ضالا كافرا بها. وكما بدأ هذا المقال بقصة، يمكن أن ينتهي أيضا بأخرى. لكنها قصة على شكل نكتة معبرة ومفيدة، وقد لا تكون صحيحة، ولكنها منتشرة في دول الخليج بصياغات متنوعة، وتعكس خطورة فكرة الإقصاء بشكل جميل قد يلفت الأنظار إلى أهمية نبذها.
تحكي القصة عن أبي صالح وأبي راشد، وهما يشاهدان الأخبار سويا في قريتهم. أبو راشد يسأل أبأ صالح عما يفكر به، فيقول له: "أنظر إلى هذا الدين الذي انتشر إلى الصين وكل الأرض، وأقول الحمد لله". فيرد أبو صالح موافقا. أبو راشد يستدرك: "لكن أغلبهم لا يعرفون من الدين إلا القشور. نحن العرب من يفهم في الدين والقرآن والحديث". فيرد أبو صالح موافقا ومعجبا. يستدرك أبو راشد منبها: "انتبه أبا صالح: ليس كل العرب على خير. عندك أبناء دول كذا وكذا لا يعرفون حتى إتقان الصلاة. الدين الحق في الجزيرة يا أبا صالح". يشعر أبو صالح بالفخر ويهز رأسه موافقا.
يعود أبو راشد للتخصيص قائلا: "يا أبا صالح انتبه: ليس كل الجزيرة على خير. الدين عندنا نحن بحق. الباقي ربك يعلم بحالهم". يمتلئ أبو صالح زهوا، ويشكر أبا راشد على حصافته. ينطلق أبو راشد ليعطيه من الشعر بيتا آخرا قائلا: "يا أبا صالح، احمد الله أنك من هذه المنطقة، فقد رأيت العجب في مناطق أخرى من بلدنا. مخالفات لا حصر لها. الدين هنا في منطقتنا فقط". ويستمر التخصيص من المنطقة إلى المدينة ثم إلى الحي ... ثم إلى ذلك المسجد الذي يصلون فيه سويا، إنه هو معقل الدين والخير والمحافظة. وصديق أبو راشد يزداد فرحا أنه من تلك القلة المؤمنة.
وينتهي الحوار بعد أن أكد أبو راشد لأبي صالح أن الدين بينهما هما، فقد لاحظ ترك معظم الناس للمسجد بعد صلاة الفجر مباشرة، ولا يبقى بالمسجد إلا هما.
ينتهي المشهد عندما يلتفت أبو راشد إلى أبي صالح قائلا: "ما لي أراك لا تخشع في الصلاة كما يجب يا أبا صالح"!
الظالم لا يفرق بين أنواعنا ولا ينشغل باختبارات الإيمان والثورة التي تفرقنا. الظالم يسعى إلى قهرنا جميعا، وإقصائنا عن وطننا، وعن أحلامنا. أفلا نتعاون كي نواجهه؟ الإقصاء يكون للخائن بأدلة لا تحتمل الشك، وليس لكل من يخالفنا.
الإقصاء يبدأ كفكرة تكبر وتعال فاسدة. وينتهي بك وحدك ظانا أن الله قد اختصك بدينه أو بثورته أو بغير ذلك. الإقصاء جريمة في حق ثورتنا، و"أسئلة الإيمان" أسئلة عجز وضعف، وليست أسئلة قوة. ولا تنتصر ثورة يقصي أبناؤها بعضهم البعض ظنا أن هذا هو أفضل الخير. فاعتبروا يا أولي الأبصار؛ كي تنصروا، وكي تنتصروا.
باسم خفاجي رئيس الأكاديمية السياسية الوطنية