يدور في كواليس وأروقة اللقاءات الرسمية العربية حديث عن محاولة لتنشيط العمل العربي وتفعيل دور منظماته والعمل على تأسيس مرتكزات للقوة، باتت تحتاجها الكيانات العربية في ظل المتغيرات العاصفة التي تشهدهها البيئة الدولية، وتظهر انعكاساتها بشكل جلي على امتداد الجغرافية العربية من شرقها إلى غربها.
قد يبدو الخوض في هذا الموضوع نوعا من تضييع الوقت، على اعتبار أن الأنظمة السياسية الحاكمة للّحظة العربية الراهنة لم تمتلك في يوم حساسية تجاه الأخطار التي تواجه العالم العربي، ولم يكن لديها تصور أو رؤية استراتيجية واضحة لدور الدول العربية، كما أنها لم تكن معنية بتطوير النظام الإقليمي العربي، واستثمار المزايا التي يكتنز بها لإنتاج سياسات أمنية دفاعية حقيقية تتجاوز الفهم الأمني الضيق، الذي عادة ما جرى حصره في إطار أمن النخب الحاكمة دون أن يتعداها إلى الأمن الإقليمي العربي، الذي يحفظ استقرار الشعوب ويؤمن رخاءها، ويحقق للكيانات العربية الاستقرار والتطور.
لا تختلف الأنظمة العربية المعاصرة بأنماط إدارتها للحكم ولا بطبيعة فهمها السياسي ولا رؤيتها لمستقبل شعوبها وموقفها أصلا منها، وإذا كان
الربيع العربي لم يطاول الكثير من الأنظمة، فإن ذلك لا يعني وجود اختلافات بين تلك الزائلة والباقية، بقدر ما يعني أن ظروف الثورة كانت قد اكتملت في بلاد ولم تنضج في بلاد أخرى.
والدليل على حالة التشابه بين الأنظمة، أن جميعها هبّت لوأد الربيع العربي كلا بطريقته المختلفة، وأن جميع الأنظمة لمست مدى المخاطر التي يجلبها مناخ الربيع، وخطورة الرياح التي تحملها هبّاته وإمكانية انتقال موجاتها عبر الأثير العربي، وبالتالي كان لا بد من إطفاء محركات هذا الربيع في بلدانه عبر تقنية
الثورات المضادة.
لكن الأنظمة العربية وجدت نفسها أمام سلسلة أخطار من نمط جديد، تولّدت من جرّاء قيامها بتحطيم بنى مجتمعاتها عبر زمن مديد، فكان أن أصبحت تلك السلطات هشّة بعد أن صرفت طاقاتها في ملاحقة كل نزوع صوب الحرية والاستقلال، وظهرت في وجهها تحديات أخطر كان على رأسها ظهور قوى فوضوية منفلتة ذات طبيعة شبحية، يصعب القضاء عليها بالأدوات التقليدية، وخطر خارجي تمثل بانتصاب المشاريع الإقليمية على حساب الكيانات العربية.
ولا شك أن هذا الخطر تغذى على واقعة الانفصال العنيف بين الأنظمة العربية وشعوبها، تلك الواقعة التي جرّدت المجتمعات من قوتها، وهشمت جسد السلطات وبنيتها البوليسية، وهي الحالة التي ينطبق عليها وصف "الفراغ"، التي بدورها تشكل عامل جذب للقوى الخارجية.
يقع العالم العربي من شرقه إلى غربه ضمن هذه الحالة من الانكشاف والضعف، وإن كان بدرجات متفاوتة، وهذه الحالة باتت تطاول النويات الصلبة للأنظمة بقدر ما تطاول الكيانات التي تحكمها، من هنا جار البحث عن مخارج من هذه الورطة ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
البعض يبحث عن الحل عبر محاولة إعادة بعث الروح للجامعة العربية، والبعض يرى أن الأمر يمكن تداركه عبر تشكيل اتحاد قوة من ما تبقى من جيوش عربية، وثمّة من يتصور أن طوق النجاة يتمثّل بصناعة وسائد إقليمية، من خلال إقامة تحالفات وثيقة مع دول الجوار الإقليمي، وكل تلك المحاولات الهدف منها إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد أن كشّرت المتغيرات عن أنيابها، وكشفت للأنظمة العربية أن كل أمجادها السابقة كانت خارج السكة الصحيحة، وأنها كانت تسير بعيون مفتوحة إلى هذا المآل.
حسنا، ليس هذا وقت محاسبة الأنظمة العربية على طريقة إدارتها للسياسات الداخلية والخارجية، لكن وحتى لا نعود إلى الدوامة التي أنتجت واقعنا الحالي، يتوجب طرح التساؤل الآتي: هل تستطيع الأنظمة العربية إدارة عملية الخروج من المأزق بالأدوات والذهنيات ذاتها التي أوصلت الأمور إلى هذا المأزق؟
الجواب بالتأكيد لا، واليوم الجميع في خطر، أنظمة وشعوب، وإذا كانت الأنظمة العربية قد قمعت ممكنات التغيير في العالم العربي، فإنها مطالبة اليوم بإيجاد البدائل الثورية للخروج من الخطر، وهذه البدائل لا بد أن تكون بدائل ثورية على مستوى الإدراك الاستراتيجي للمخاطر، وعلى مستوى صناعة القرار والمبادرة، بدائل قادرة على تحفيز الشعوب العربية على المشاركة في مواجهة التحديات والتضحية في سبيل الحفاظ على الكيانات العربية.
باختصار بدائل بنكهة ثورية تعيد للمجتمع حقّه في القيادة، وتقريره لشكل السلطة التي تدير شؤونه، واختياره للمستقبل الذي يحمي أبناءه، وبغير ذلك لا يوجد أمل لدى العرب.