1-
في العاصمة الألمانية برلين وقف وزير السياحة، هشام زعزوع، على منصة بورصة "ITB"، بينما شاشة العرض الخلفية تتنقل بين صور لمصريين ضاق بهم الحال بعد انهيار قطاع السياحة، توقفت الشاشة على "صاحب حنطور"، نظر إليه الوزير ثم عاد بنظره إلى الحضور وقال بتأثر بالغ: "هذا الرجل يملك حنطورا يعمل به في المناطق السياحية بالأقصر، أوقفني خلال زيارتي الأخيرة للمدينة وقال لي: "يا وزير شايف الحصان ده؟ وشايف ابني ده؟ قول لي أجيب أكل لمين فيهم؟".
استغراب بالغ قوبلت به تصريحات وزير السياحة، لكن الاستغراب من فعل الوزير أغرب من فعل الوزير نفسه، فالرجل لم يفعل سوى ما تعلمه، هو ابن بار لمشروع تسول كبير تعيشه مصر داخليا وخارجيا منذ وصول المشير عبد الفتاح السيسي إلى كرسي الرئاسة.
نعم، هي تصريحات فاضحة مهينة وتكشف عن ضحالة بؤس وضحالة صاحبها، لكن لا يمكن أن ننزعها من سياق عام يحكم كل تصرفات النظام الحالي بدءا من رئيسه إلى أصغر موظف فيه، كان يمكن للوزير أن يعرض صورا تكشف جمال مصر وبهاءها، ويتحدث عن الإجراءات التي اتخذتها مصر لتطمين السياحة الوافدة، لكنه انحاز للحل الأسهل الذي لم يعرف نظام السيسي غيره منذ تولى السلطة، تسول التعاطف ودغدغة المشاعر.
2-
قبل أسبوعين فقط من سقطة زعزوع، كان الرئيس عبد الفتاح السيسي يقف على منصة مماثلة في مسرح الجلاء، كان الرجل يتحدث وحوله اقتصاد يحتضر، وأسعار ترتفع، وجنيه يغرق، واحتياطي أجنبي يتآكل، وإجراءات تحرق الفقراء، وشباب جدد يلتحقون بطوابير البطالة، وبدلا من أن يتحدث عن خطط حكومته ونظامه لتجاوز هذه الكوارث، لجأ أيضا إلى التسول كحل أسهل، فطلب من المصريين أن "يصبّحوا" على مصر بجنيه واحد يوميا حتى تتمكن من الوفاء بالتزاماتها.
المضحك أن الذين ينصبون المشانق لوزير السياحة الآن ويتهموه بالتسول وإهانة المصريين، هللوا للفكرة وصمموا لها "البانرات" والحملات على مواقعهم وقنواتهم، وتابعوا حصيلة المبادرة التي لم يخجلوا بتسميتها "صبّح على مصر" بأخبار يومية، وقتها لم يعتبر كهنة المعبد ما قاله السيسي تسولا، لم يحدثوه بأن تصريحا كذلك سيزيد من الصورة السلبية عن مصر في الخارج كبلد قارب على الإفلاس ويجمع التبرعات من مواطنيه، لم يناقشوه في أفكاره ويصارحوه بأن المشكلة في العملة الصعبة لا المحلية، وأنه حتى ولو تبرع المصريون بـ10 مليارات جنيه يوميا لن يغير ذلك في الواقع شيئا.
لم يكن ما قاله السيسي في مسرح الجلاء صادما، فبدا منذ إعلانه الترشح للرئاسة أن المساعدات والمنح المنتظرة هي النقطة الأوضح في البرنامج الانتخابي لوزير الدفاع السابق، فقد أكد خلال حواره مع لميس الحديدي وإبراهيم عيسى قبيل الانتخابات، أن المساعدات الخليجية لمصر تجاوزت في الشهور القليلة السابقة حاجز الـ20 مليار دولار، وأنه ينتظر المزيد منها في الفترة المقبلة.
وفي التسريبات التي خرجت من مكتب السيسي قبل الرئاسة، اتضح من حديثه مع مدير مكتبه أن كل خططه تعتمد على ما سيحصل عليه من أموال من دول الخليج، وهي التسريبات التي كان لها أثرا سلبيا كبيرا في العلاقة بين مصر وهذه الدول فيما بعد، ورغم أن التصريحات الرسمية كانت تحاول دوما نفي ذلك، إلا أن الكتاب الخليجيين المعروفين بقربهم من دوائر صنع القرار في بلادهم كانت تؤكده.
بعد توليه الرئاسة بأسابيع قليلة نظم السيسي حفل إفطار لبعض رجال الأعمال أسفر عن إعلانهم التبرع بنحو 5 مليارات جنيه لصالح الصندوق، لكنه غضب من ضآلة الرقم، وأكد أنه يطمح للوصول به إلى 100 مليار جنيه، وحتى عندما عقدت مصر مؤتمرا اقتصاديا كان واضحا أن الهدف منه ليس جذب استثمارات بقدر ما هو بحث عن معونات ومساعدات ومنح، وهو ما دفع الحلفاء الخليجيين الأساسيين مثل الإمارات والسعودية والكويت للتلميح أحيانا والتصريح في أحيان أخرى بأن زمن المنح انتهى، حيث قال حاكم دبي في كلمته أمام المؤتمر أن إجمالي ما قدمته الإمارات لمصر خلال العامين الماضيين أكثر من 14 مليار دولار، وهو ما فهمه الجميع وقتها بأنه إعلان رسمي بأن ما حصلت عليه مصر منهم يكفي وزيادة، وأنهم سيكونون أكثر بخلا فيما هو قادم.
المضحك أن الحكومة عندما لم تجد المنح التي كانت تتمناها في المؤتمر، تجاهلت أمر مذكرات التفاهم القليلة التي تم توقيعها فيه حتى انتهت المهلة وضاعت فرصة تحويل هذه المذكرات إلى مشروعات على أرض الواقع، وكأن الحكومة تعترف رسميا بأنها حكومة إعانات لا استثمارات.
3-
"بيعايرونا بفقرنا"
جملة عابرة قالها السيسي في خطابه بمسرح الجلاء، وأجمع المراقبون أنها موجهة إلى السعودية بعد التوترات السياسية التي ظهرت على السطح بين البلدين بسبب اختلاف المواقف من ملفات مثل سوريا واليمن وليبيا.
وبينما كان السيسي يقول ذلك، كان أمام عيني كليب رديء لأغنية اسمها "مصر قريبة" هدفها تشجيع السياحة الخليجية على زيارة مصر، لكن بدلا من أن يحدث ذلك بطريقة كريمة اختار القائمون على الكليب أكثر طريقة مهينة، فصوروا سائحا خليجيا يتجول في شوارع القاهرة، بينما يتملقه أصحاب عربات الحنطور وسائقو التاكسي، ويرقيه درويش بالبخور، ويلفت الحاوي نظره بالألعاب النارية، وتنظر له بائعة ورد نظرة ذات مغزى.
في نفس التوقيت تقريبا كان الإعلامي خيري رمضان يعرض على الهواء بطانية مستعملة جمعت السفارات المصرية في السعودية والإمارات والكويت والبحرين 35 طنا منها لتوزيعها على فقراء مصر، وأخذ خيري رمضان يتغزل في مزايا البطانية المستعملة التي ستحمي أهالي الصعيد من البرد بعدما عجزت حكومة بلدهم عن القيام بهذه المهمة.
الفقر ليس عيبا ليعايرنا أحد به، بشرط ألا نهدر نحن كرامتنا.
4-
كما كانت 25 ثورة عيش، كانت أيضا ثورة كرامة.
فعل النظام الحالي وحكومته وسياسييه وأبواق إعلامه في العامين الماضيين كل ما يهدر كرامة المصريين، وبعد أن كان الأجانب يقفون لتحية المصريين في المطارات بعد 25 يناير، أصبحت نظرات الشفقة أو الضحكات المكتومة تطاردنا في كل مكان، وسيبقى الوضع كذلك طالما كان التسول هو المشروع القومي الوحيد لنظام السيسي.
وزير السياحة هشام زعزوع لم يخطئ، هو فقط كان يطبق ما تعلمه ممن عينه، فقبل أن تلوموه لأنه تسوّل، لوموا من جعل التسول سياسة دولة.