عندما شبه وزير العدل في سلطة الانقلاب العسكري في
مصر "أحمد
الزند" نفسه بكفار مكة، تذكرت الراحل الشيخ "يوسف البدري"، وأنا أحاوره!
كنت قد وجهت للشيخ هذا الاتهام: "أنت متهم باعتماد منهج التكفير"، فسألني: "كفرت من"؟!.. فأجبته: "لقد قمت بتكفير الدكتور نصر حامد أبو زيد". لأن الشيخ "البدري" هو من رفع ضده دعوى الحسبة أمام القضاء المصري، التي انتهت بالحكم بالتفريق بينه وبين زوجته الدكتورة "ابتهال يونس".
ورد الشيخ بذكاء لم أعهده فيه: "أنا لم أكفره فهو الذي كفر"!
كنت قد قرأت كل كتب الراحل الدكتور "نصر أبو زيد"، والمذكرات التي كتبت حول إنتاجه الفكري للترقية لدرجة الأستاذية بجامعة القاهرة، التي تم الاعتماد على جانب منها في دعوى التفريق، ولم أوافق "البدري" وغيره في أن الرجل كافر، لكن مع ذلك فقد أعجبت برد "الشيخ": "أنا لم أكفره فهو الذي كفر"!
وقبل ذلك بسنوات، كنت قد أجريت مقابلة صحفية مع الشيخ الراحل أيضا "عبد الله السناوي"، الأستاذ الحقيقي للقيادات التاريخية للجماعات الإسلامية في مصر، وسألته عن قوله في الاتهام الموجه إليه بأنه يكفر المجتمع والأفراد؟.. فقال إنه لا يكفر مسلما بذنب ما لم يستحله، غاية ما في الأمر أن من يكفر لا يقول عليه هو إنه مؤمن.
كل الأسماء التي سبق ذكرها، رحلت عن دنيانا، وحتى لا يكون حديثنا كأحاديث الراحل "محمد حسنين هيكل" كل شهوده موتى، فإننا ننتقل من الأموات إلى الأحياء، وإلى وزير العدل "أحمد الزند"، الذي لم يكتف بمجرد التطاول على مقام الرسول صلي الله عليه وسلم، وإعلان استعداده لسجنه.
"الزند" لغير المتابعين، كان يتحدث تلفزيونيا، وقد جرى التطرق لدعاوي قضائية أقامها ضد عدد من الصحفيين، بعضهم من المناصرين للحكم الذي اختاره وزيرا للعدل، فقال إنه سيسجن كل من يتطاول عليه حتى لو كان الرسول!
جرأة عُرفت من الحكم العسكري في مصر بالضرورة، عندما يظن سدنة النظام، أنهم بالقوة الظاهرة التي يملكونها، وقدرتهم على إلحاق الإيذاء بالشعب المغلوب على أمره، والذهاب بأي إنسان إلى ما وراء الشمس، أنهم بالتالي في قوة من لن يقدر عليه أحد!
وما يزال صوت قائد السجن الحربي في حكم عبد الناصر "حمزة البسيوني"، يتردد في أركان السجن، ويتردد أصداء مقولته في ذاكرة التاريخ: "لو نزل الله لوضعته في الزنزانة"، وذلك في مواجهة سجناء عُزل، كانت السياط تنزل على ظهورهم فتلهبها، فيطلبون النجدة من "الله"، لكن أنّى لهذا المتغطرس أن يعرف أن في السماء إلها هو القاهر فوق عباده.
في سيرة "حمزة البسيوني" ثلاثة دروس هي ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإن لم تمثل شيئا لمن جاء به، ولم تكن درسا، يحول دون أن يتجرأ وزير العدل في سلطة العسكر على مقام النبوة، فيعلن في لحظة زهو وغرور، استعداده لسجن الرسول!
كان الدرس الأول: عندما أوقعت إسرائيل هزيمتها بكل النظام الحاكم الذي يعد "حمزة البسيوني" أحد رموزه ونجومه وجلاديه، وكانت الطائرات الإسرائيلية تحلق فوق بيت عبد الناصر، في غطرسة فلا يملك حيالها حولا ولا طولا، ولم يجد أمامه من سبيل إلا إعلان التنحي لإثارة شفقة الشعب.
وكان الدرس الثاني: عندما شعر النظام كله بالضعف بعد هذه الهزيمة، فقرر أن يضحي ببعض رموزه الفاسدة، في رحلة التقرب من الشعب المصري، وكان "حمزة" المذكور أحد الذين استقبلتهم الزنازين، ويروي "صلاح عيسى"، كيف أنه شاهده في معتقل القلعة في صيف 1968، وكان "عيسى" قد اعتقل بتهمة المشاركة في مظاهرات الجامعة، وكيف أن "مخبر" السجن، كان ينهر "حمزة البسيوني"، ويقول له: "امشِ بسكات، فيستجيب له في خوف"، بشكل أذهل صاحبنا.
أما الدرس الثالث: فوقع عندما كان "حمزة البسيوني" وشقيقه في طريقهما للإسكندرية، عندما اصطدمت سيارتهما بسيارة محملة بأسياخ تستخدم في البناء، في حادث مروع، فدخلت هذه الأسياخ في جسمه، ليلقى وشقيقه حتفهما، ولم يمكن نزع هذه الأسياخ إلا بتشويه الجثة بشكل كامل، وليكون لمن بعده آية.
ولأن القوة الباطشة للعسكر ولمن في حكمهم، أكبر من قدرتهم على الاستيعاب، فلا تغن الآيات والنذر، فيأتي "الزند" ليتطاول على مقام النبوة دون أن يهتز له رمش، لكن في جبروته وهو يتجاوز، فإنه يعرف أن لغطرسته حدودا، فحمزة البسيوني، الذي قال "لو نزل الله لوضعته في الزنزانة"، لم يكن ليجرؤ ليقول لو جاء "عبد الناصر". تماما، كما لا يستطع "الزند" أن يضرب مثلا ليس بالسيسي، ولكن بالمسيح، أو حتى بالأنبا تواضروس!
فإذا كان في اعتذاره، قال إنها "زلة لسان"، فلا نعرف لماذا لم يزل لسانه ويتطاول في حق قوة محسوسة، لاسيما وأن فكرة القانون التي تسري على "التخين" لا تشمل الرسول، وأي رسول، وإنما ضرب الأمثال يكون بمن يملك قوة حقيقية ويسري عليه القانون في تطبيقه من الناحية النظرية!
إن المرء مخبوء تحت لسانه، وزلة اللسان كاشفة عما في الصدور، وعلى النحو الذي ورد في الآية الكريمة: "ولتعرفنهم في لحن القول"، وقول عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: "ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه"!
فلم يكن الأمر كاشفا عما في أغوار القوم بالتجرؤ على النبي صلي الله عليه وسلم، ولكن في ما قاله بعد ذلك تبريرا لجريمته، فقد قال نصا: "أثق أن الرسول سيقبل اعتذاري مثلما فعل مع كفار مكة بعد فتح مكة"!
ولا نستطيع أن نجزم، إن كان يرى نفسه من "الكفار" الذين استحقوا العفو النبوي، أم من الآخرين الذين أمر بتعقبهم ولو تعلقوا في أستار الكعبة المشرفة، التي قال في سياق العفو من دخلها كان آمنا، وما نجزم به أن مكة لم تفتح، وأننا لم نصل بعد إلى مرحلة صلح الحديبية، وقبل فتحها كان الكفار على حالهم، كفارا يتربصون بالرسول ويتطاولون عليه ويقاتلونه.
اللافت أن هذا يأتي في أجواء سجن أحد الأشخاص بتهمة إهانة الإمام البخاري، والإمام على مكانته لا يساوي حفنة من تراب كان يمشي عليها الرسول!
لقد أقيل الزند، بعد رفضه لتقديم استقالته، دون اعتذار من السلطة التي عينته عن خطئه عندما كان عضوا فيها، لتبدو أنها لم تقيله عن قناعة بأنه أخطأ، ولكن لأنها حوصرت بالهجوم عليها من مواقع التواصل الاجتماعي، وهي إقالة لا تعبر عن قوة الإعلام الجديد، فهناك حملات سابقة في مواقف مماثلة لم تجبر سلطة الانقلاب على التراجع، ولكن لأن هذه السلطة الآن في "أضعف حالاتها"، بحسب قول
السيسي في خطابه الأخير!
يا لها من نهاية تليق بهذا الزند الذي كان تعبيرا عن غطرسة قوة العسكر تماما كما كان حمزة البسيوني، وكما سجن نظام عبد الناصر المذكور وهو في أضعف حالاته وقد تركه يقول ما قال في قوته، فقد فعلها عبد الفتاح السيسي الآن!
إنه عزل كاشف عن ضعف السلطة وليس عن قوة إيمانها.