كتاب عربي 21

في تونس الإرهاب الإعلامي والجهوي أولا

1300x600
الهجمات الإرهابية الأخيرة التي عرفها الجنوب التونسي على الحدود التونسية الليبية هي كسابقاتها من الهجمات تمثل حدثا كاشفا للمشهد بشكل عام ولمجمل المؤثرات النوعية التي تعتمل فيه. أفضل الشواهد الكاشفة للمشهد ولخلفياته المحرّكة هو المشهد الإعلامي البائس الذي لم يبرح إلى اليوم مخالب الدولة العميقة في تونس رغم كل ما يوحي به المنظر من تعدد المنصات واختلافها.

كل الوجوه المحسوبة على النظام القديم تصدرت المشهد الإعلامي وأصبحت حفلات المزايدة بالوطنية وبالعشق الكاذب للجيش وللقوى الأمنية لا تنقطع وهو خطاب لا ينفصل عن التقدّم الملموس في شيطنة العقيدة وضرب أسس الوحدة الوطنية واستهداف قيم الشعب الأساسية وذبح اللغة العربية.

المريب في المشهد هو أن الخطاب الذي يلحق كل عملية إرهابية تضرب الشعب العربي في تونس يؤشر على استثمار بائس لكوارث البلد وقد يدفع إلى التشكيك في الجهات التي تقف وراء هاته العمليات وليس تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة بأنه يرغب في عودة الرئيس الهارب إلا واحدا من هذه المؤشرات الخطيرة على المستفيدين من العمليات الإرهابية.

إنّ استثمار منصات "إعلام العار التونسي" ـ حسب تعبير النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي ـ لمصائب الوطن مفهوم ومتوقّع لأنه يقع داخل أطماعها وأهدافها التي خلقت لأجلها من طرف "العصابات" المتحكمة في قنوات الإعلام الخاص بشكل أساسي. لكن ما يخرج عن الفهم هو صمت النخب التونسية ـ من نخب بن علي المعارضة ـ عن الظاهرة وخطورتها وتداعيتها وهو أمر على قدر كبير من الخطورة.

الجنوب التونسي ـ كما هو حال منطقة الوسط والشمال الغربي ـ إنما يمثل شاهدا حيا على الإرهاب الحقيقي لدولة الاستبداد في تونس منذ حقبة الوكيل الاستعماري الأول "بورقيبة" والوكيل الثاني "بن علي". فمدينتا بنقردان والقصرين على سبيل المثال حيث وقعت أغلب وأخطر العمليات الإرهابية لا يملكان مستشفى واحدا لائقا، بل هي عبارة عن دكاكين لاستقبال الموتى والجرحى وتحويلهم نحو الحواضر الكبرى لا غير. هذه المدن مثل مئات المدن التونسية هي مدن للفقر والموت والتهميش والاحتقار المنظّم من قبل "بارونات دولة الفساد" التي سلبتهم ثرواتهم ومنعت عنهم التنمية وحرمتهم العيش الكريم عبر نشر البطالة وتزييف الحقائق وقمع كل الأصوات المخالفة. هكذا خلقت دولة الفساد أخصب الأراضي لنمو العنف والتطرف والإرهاب عبر جيوب الفقر وقرى الموت البطيء الذي لم يترك للشباب اليائس غير خيارات أربعة: الرحيل أو الانتحار أو الانحراف أو التطرف.

الإرهاب في تونس هو إرهاب منصّات "إعلام العار" الذي يرقص على جثث الشهداء والضحايا نكاية في الثورة وفي من قاموا بها، حيث يختص أشباه الخبراء من عرافين وكهنة وقراء الفناجين ومنجمين في بث الرعب والخوف والهلع بين صفوف التونسيين فتتبخر الأحلام بالغد الأفضل ويصبح الأمن أعز المطالب التي تسمح بسلب الحريات وقمع المخالفين والاعتقال على الشبهات ولم لا التعذيب حتى الموت في حال الشبهة.

هذا المشهد هو الذي يفضح الاستثمار المركز لملف الإرهاب المشبوه، وهو يضرب بقوة مهد الثورة العربية ليلحق الحالة التونسية بغيرها من الحالات النازفة الأخرى في المنطقة الربيع كلها. فاليوم لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ولا غبار يرقى إلى غبار الحرب على الإرهاب والإرهابيين والداعشيين التكفيريين الأصوليين الماضويين السلفيين... وكل ما حوى المعجم الأمريكي والإيراني من أدوات الشيطنة و"تكفير التكفير".

الإرهاب في تونس إرهاب جهوي لأنه لا يضرب غير المناطق الفقيرة من "الهباءات البشرية" كما كان يسميهم "المجاهد الأكبر" العائد بقوة عبر أصنامه وأوثانه إلى مفترقات الطرق في تونس. هكذا تمثل الجهات المحرومة خزانات مشتعلة للتطرف والعنف وهي خزنات لن تكف عن تهديد السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية، ما لم تسارع السلطات المسؤولة بالبدء في ردم الهوة السحيقة بين الشمال المترف والجنوب المهمّش بين ساحل مرفّه ووسط يموت كل يوم.

إن مكافحة آفة الإرهاب تبدأ اليوم بقراءة العينات الاجتماعية للمجموعات التي هاجمت مدينة بنقردان الحدودية بالأمس من أجل فهم الأسباب والمسارات التي أوصلت شبابا في عمر الزهور إلى هذا المآل البائس حيث يقتل الإنسان أهله وذويه. أما شيطنة الإرهابيين أو التصوير مع جثثهم والتنكيل بها في حفلات الرقص مع الذئاب فليست إلا استنساخا للسلوك الداعشي نفسه وليس إلا متاجرة بملف الإرهاب من أجل محاولة إعادة ترميم جدار الخوف الذي سقط مع هروب "بن علي" وتناثرت أحجاره.

ليس أخطر من الإرهابي غير الصانع له وليس أجرم في حق البلاد والعباد منه غير الراقصين على آلام العائلات التي فقدت أبناءها من ضحايا الفقر والتهميش وانهيار القيم ومحاربة الدين وتجفيف ينابيع المعرفة في دولة الحداثة الكذابة أو دولة القرون الحضارية الثلاث ـ 3 آلاف سنة حضارة ـ كما يُغني "إعلام العار التونسي" كل يوم.