قضايا وآراء

البورقيبية.. باقية وتتمدد

1300x600
 في البدء كانت الدّولة-الأمة  (1)

تصدير: تُمثل المسألة السياسية الحقيقة بعينها (ميشال فوكو)
 
بعد حصول تونس على الاستقلال من المستعمر الفرنسي، كانت الدولة-الأمة L’Etat-Nation التي حاول الزعيم بورقيبة بناءها محتاجة إلى بناء سرديتها "الوطنية" الخاصة، وهي سردية كان يراد لها أن تكون قادرة على القطع مع نمط المشروعية في الدولة التقليدية من جهة أولى، وأن تكون قادرة –من جهة أخرى- على مواجهة سائر السرديات المنافسة مثل القومية والشيوعية. 

كانت البورقيبية حسب العديد من الباحثين حركة كمالية (نسبة إلى الزعيم كمال أتاتورك)، وبالاعتماد على التحليلات العميقة التي قام بها بوبي.س.سيد في كتابه المرجع A Fundamentalfear : eurocentrisme and the emergence of Islamism  (وهو كتاب مترجم إلى العربية بعنوان: "الخوف الأصولي، المركزية الأوروبية وبروز الإسلام")، يمكننا أن نقول إنّ الحركات الكمالية - في بلدها الأصلي وفي سائر البلدان التي استلهمتها كأفغانستان وإيران وتونس وغيرها - قد قامت على خاصيتين متلازمتين: أولهما "تحويل الإسلام من دال رئيس للنظام السياسي إلى مجرد عنصر من عناصره"، وثانيهما "إعادة إنتاج وضع يكون فيه الإسلام مرتبطا بشكل وثيق بالدولة" وليس بالأمة بمعناها العروبي القومي أو الإسلامي. 

منطقيا، كان ذلك يعني في وجه من وجوهه أنّ هذه الحركات الكمالية-ومنها البورقيبية- هي حركات مندرجة في التراث السياسي "الوستفالي" (نسبة إلى معاهدة وستفاليا سنة 1648م) لأنها تنطلق من قاعدة أساسية وهي أنّ الحكّام هم من يُحددون بشكل حصري الولاء الديني للمجموعات التي تخضع لسلطاتهم، بحيث لا توجد أي سلطة دينية أعلى من الدولة أو خارجة عن سلطتها الرقابية والمرجعية. وقد كانت البورقيبية فضلا عن خلفيتها الوستفالية المرتبطة بمفهوم الدولة-الأمة "تَونسةً" للفلسفة اللائكية الفرنسية التي كانت تتمثل العلاقة بين الديني والسياسي بشكل مخصوص، ذلك الشكل الذي تغلب عليه الفلسفة اليعقوبية التي ورثت العلاقة الصدامية الموروثة من الثورة الفرنسية وشعارها الشهير "اخنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس". 

بصرف النظر عن مواقفنا الشخصية من البورقيبية، وبصرف النظر عن نزعات "الأمثلة" أو "الشيطنة" التي تتنازع هذه الشخصية المؤسسة للجمهورية الأولى، فإننا لا نستطيع أن نقرأ التاريخ التونسي أو أن نُفكر جدّيا في إعادة كتابته دون استحضار الأثر"الإشكالي" للزعيم بورقيبة. فنحن-في التحليل الأخير- نستطيع أن نُفكر مع بورقيبة أو ضده، ولكننا لا نستطيع أن نفكر في تاريخ تونس قبل الثورة وبعدها من دونه. 

في ملحمة 17 ديسمبر 2010 كان أحد الشعارات الرئيسة للثورة التونسية هو شعار"الشعب يريد إسقاط النظام"، ذلك النظام الذي انقلب على بورقيبة في 7 نوفمبر 1987 ولكننا لا نستطيع أن نقول بأنه انقلب على البورقيبية بما هي فلسفة في الحكم ونظام في توزيع الثروات المادية والرمزية وجملة من الخيارات الكبرى في مستوى العلاقات الدولية. كان قائد انقلاب 7 نوفمبر قد طرح نفسه باعتباره حركة إنقاذ أو حركة تصحيح للبورقيبية الضعيفة أو المريضة (بالمعنيين الحقيقي والمجازي)، كما كان قد طرح نفسه باعتباره وريثا للحركة الإصلاحية التي كانت البورقيبية تجسيدها الدولاني-المؤسسي. لقد كان شعار إسقاط النظام المصاحب للثورة التونسية شعارا راديكاليا في مستوى الصياغة وفي مستوى الطموح والممكنات التاريخية، ولكنه أصبح شعارا مربكاوقابلا للأدلجة والتحزيب بعد هروب المخلوع في 14 جانفي 2011.

لم يكن مطلب إسقاط النظام يهدف إلى إسقاط القيم الحديثة التي تأسست عليها الدولة-الأمة، ولم يكن يطمح إلى بناء انتظام سياسي يتجاوز فضاء"الأمة التونسية"، ولكنه لم يكن أيضا دعوة إلى إحياء البورقيبية أو إلى جعلها الأفق النهائي لأي مشروع سياسي. لكنّ الواقع الذي أفرزته الثورة أعطى للبورقيبية جاذبية لم يكن الزعيم ليحلم بها في حياته. لقد دفعت الصراعات الثقافوية-الهووية- سواء أكانت تلك الصراعات حقيقية أم المفتعلة- بالبورقيبية إلى السطح مرة أخرى وذلك لقدرتها-أو لقدرة المتحكمين في رأسمالها الرمزي- على استثمارها في تذويب الخلافات الايديولوجية بين مكوّنات "العائلة الديمقراطية" وعلى التقريب بينها انطلاقا من التمترس خلف مفهوم "النمط المجتمعي التونسي" وجعله أساس التمايز عن الإسلام السياسي، بل جعلهأساس الصراع"الوجودي" مع تلك التشكيلات السياسية "الرجعية" التي أصبحت تهدد الكمالية وفلسفتها السياسية حتى في معقلها التركي ذاته.

عندما انحصرت الصراعات في الصعيد الثقافي أساسا، أصبح الالتجاء إلى البورقيبية خيارا منتظرا، بل خيارا راجحا. فالصراع بين الإسلاميين واليساريين جعل الأمر يبدو كما لو أنه تهديد للدولة ذاتها، وهو ما يستدعى وجوبا قوّة سياسيسة "وسطية" يمكنها أن تمنع المفاعيل الكارثية لهذا الصراع من الوصول إلى نهاياتها المنطقية، كما يمكنها أن تكون عاملا للحد من نوازع التطرف عندهما معا. ولم يكن هناك أفضل من التراث البورقيبيليقوم بهذه الوظيفة التأسيسية (الدائمة)، خاصة بعد أن استنجد الفرقاء السياسيون الرئيسيون بالأستاذ الباجي قائد السبسيأحد رموز البورقيبية ليقود المرحلة (الانتقالية) التي سبقت الانتخابات التأسيسية. ومن الملاحظ بعد الثورة، أن البورقيبيةكانت تتوجه  تدريجيا إلى أن تقوم بدور "الخطاب المرجعي الكبير" عند مختلف الفاعلين العلمانيين وذلك كلما قويت حدةالصراع  السياسي مع حركة النهضة أو تأججت المخاوف -المشروعة في الأغلب والمبالغ فيها أحيانا- من نوازع استضعاف الدولة ومنازعتها سلطاتها، خاصة عند من ينتمون إلى التيار السلفي الجهادي الممثل أساسا بتنظيم "أنصار الشريعة".

إثر انتخابات 2011 وفوز حركة النهضة الإسلامية بأغلب مقاعد المجلس التأسيسي، لعبت البورقيبية دورا مركزيا في إعادة تشكيل الحقل السياسي، بل في تحديد صورة الجمهورية الثانية والدفع بها لأن تكون مجرد لحظة "ثانية" في بنية تسلطية واحدة. فللهروب من "السمعة السيئة" للتجمع الدستوري الحاكم قبل الثورة، عمد أغلب المنتمين إلى ذلك الحزب المنحل بحكم قضائي إلى البحث عن نسب سياسي جديد لمواصلة النشاط، وهو ما وفّرته لهم الحركة الدستورية البورقيبية. ولم يكن ذلك ليحصل إلا ببناء علاقة استبدالية ذات بنية مغالطية بين التراث التجمعي من ناحية أولى والتراث الدستوري البورقيبي من ناحية ثانية.

وبعد أن نجحت البورقيبية في توفير الغطاء السياسي لإعادة انتشار التجمعيين والتطبيع معهم ضمن ما يُسمّى "العائلة الديمقراطية"، انتقلت إلى مرحلة أخرى أساسها التقريب بين القاطرة الأساسية لتلك القوى التجمعية-الجديدة- ألا وهي حركة نداء تونس- وبين القوى اليسارية على أساس انتمائهما إلى مشترك حداثي واحد اختزله تعبير "النمط المجتمعي التونسي". وكان لابد لهذا التحالف الميتا-أيديولوجي أن يجد سببا كافيا لتجاوز التناقضات الجوهرية بين مكوناته الليبرالية واليسارية، ولم يكن هناك أفضل من بناء هذا التحالف الجبهوي-جبهة الإنقاذ- لمواجهة مخاطر الإسلام السياسي المتنامية. كان احتدام الصراع الهووي يحرف الوعي العام عن القضايا الحقيقية التي قامت الثورة من أجل تحقيقها – من مثل إعادة توزيع الثروة والسلطة على أساس أكثر عدلا- ، وهو ما أدّى إلى اختزال الثورة واستحقاقاتها في الحد الحيوي الأدنى: أي اختزال المطالب الجماعية في حماية النمط المجتمعي الذي اعتاد التونسيون أن يحيوا فيه رغم كل علاّته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. 

دفع الصراع الهووي بين العلمانيين والإسلاميين -خاصة مع تزايد الخطر الإرهابي وبلوغه مرحلة الاغتيال السياسي للشهيدين شكري بلعيد ومحمد براهمي- جميع المتصارعين يمينا ويسارا إلى البحث عن سلطة مرجعية أو معيارية -معترف بها عند أغلب المتنازعين وبإمكان الجميع بضرب من التأويل أو التوسع أن يجدوا جزءا من هوياتهم الجماعية فيها-، وهي سلطة تحكيمية يمكنها إدارة الصراع الحاد بين الفرقاء والابتعاد به عن الإمكان الكارثي للاحتراب الأهلي. إنه واقع سياسي ستظهر فيه قوة البورقيبية باعتبارها ليس فقط تلك الإيديولوجيا التحديثية القُطرية التي أسست الجمهورية الأولى وحددت خياراتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الكبرى، بل تلك الإيديولوجيا الوطنية التي يبدو أنه لا مهرب من"إحيائها" لتأسيس الجمهورية الثانية في ظل غياب أي إيديولوجيا أخرى لها القدرة التجميعية ذاتها.

لم يكن للبورقيبية أن تلعب بعد الثورة دور "الخطاب الكبير" –أي ذلك الخطاب المهيمن على المشهد السياسي، والذي تستمد سائر الخطابات الأخرى شرعيتها من درجة الاقتراب منه أو الابتعاد عنه- إن هي فشلت في احتواء جزء من الإسلاميين –وتحديدا حركة النهضة التي أصبحت حزبا سياسيا قانونيا وذا قاعدة انتخابية مهمة- ، ولم يكن لها أن تلعب ذلك الدور إن هي لم تنجح على الأقل  في تحييد/تدجين الخطابات الإسلامية المعاديةللدولة الوطنية ومشروعها التحديثي. عندها فقط، يمكن للبورقيبيةأن تتحوّل إلى "دال رئيس" في الحقل السياسي بعد 14 جانفي2011، وعندها فقط ستصبح الورقيبية-وبشكل متناقض- المرجعيةالمشتركة التي حكم مكر العقل في التاريخ بأن تنبني عليها الجمهورية الثانية. وهو ما يعني أنّ الصراع بين الفاعلين السياسيين لن يكون إلا من جهة تأويل تلك المرجعية الجامعة وإعادة إنتاجها عبر منجزها التاريخي أو ممكناتها غير المستغلة بعد. 

إننا أمام واقع "متناقض"، وهو تناقض ازداد وضوحا بعد انتخابات 2014 -على الأقل من جهة الأصول الايديولوجية لأغلب المتنازعين على المرجعية البورقيبية، ومن جهة عجز النخب عن خلق رمزيات ثورية جامعة تتجاوز الآباء المؤسسين للجمهورية الأولى وأولهم بورقيبة-، وهو الإشكال الذي سنحاول تفصيله في الجزء القادم من المقال بإذن الله، وذلك من خلال تدبر أثر "البورقيبية" في تشكيل الحقل السياسي التونسي وفي بناء رهاناته الكبرىونحت مفرداته النهائية والآفاق الحقيقية لذلك كله في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة.