كتاب عربي 21

السبسي يصادق على أكبر قرض في تاريخ تونس ويسميه "منحة"

1300x600
قال الرئيس السبسي في حوار إذاعي هذا الأسبوع: "جاني بنكي مون وجاني الآخر" (جاءني الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون وشخص آخر). الشخص الآخر هو رئيس البنك الدولي. لا يمكن أن نجزم أن كان السبسي يعرف عادة إلى من يتكلم عندما يستقبل ضيوفا أجانب. لكن بيان الرئاسة بدى واضحا في تأكده من هوية الضيف والأهم من فحوى اللقاء: "من جانب آخر أكّد رئيس البنك الدولي على مرافقة البنك لتونس في مسار إصلاحاتها الاقتصادية وتخصيص منحة سنوية تقدّر بمليار دولار على مدى أربعة سنوات". كل شيء واضح إلا نقطة محددة وهي الأهم. لن يعطي البنك الدولي "منحة"، بل قرضا. 

إذ لدى البنك الدولي بطبيعة الحال ناطقون وبيانات. وكان اعلن قبل أيام من الزيارة من خلال المسؤولة عن ملف تونس لدى البنك، ايلين موراي، عما سيحصل فيه كما نقلت وكالات الأنباء الدولية وعلى رأسها "رويترز" في تقرير نشر يوم 25 مارس أن البنك سيقرض (to lend) تونس مبلغ 5 مليار دولار على مدى أربعة سنوات (2016-2020) وذلك وفقا لاسترايتجيا "إصلاحات" بمعدل مليار دولار كل سنة. 

هل قامت رئاسة الجمهورية بمغالطة متعمدة للراي العام التونسي بتوصيف قرض، هو الأكبر في تاريخ تونس، بـ"منحة"؟ أم ذلك ناتج عن محدودية معرفة الطاقم "الكفؤ"، وهو غيض من فيض الكفاءات الحكومية التي يمكن أن تسير اربع دول التي وعد بها السبسي، هذا الطاقم المتضخم بالمناسبة في قصر قرطاج؟ المعضلة أن وسائل إعلام تونسية نقلت النص كما هو دون تمحيص. 

الآن نحن إزاء اضخم قرض في تاريخ البلاد والأمر مر مرور الكرام حيث لم يوجد أي تعليق في أي مكان. وكانت الأخبار التي شغلت الناس هذا الأسبوع من نوع طرد مغنية اتهمتها نقابة الفنانين بـ"البذاءة". فهل هناك اكثر بذاءة من تهميش خبر الاقتراض بما يتجاوز ثلث الميزانية السنوية للدولة (5 مليار دولار = 10 مليار دينار تونسي، والميزانية السنوية هذا العام كانت في حدود 28 مليار دينار)؟ ويبقى الأهم من ذلك ما هي خريطة الطريق التي وضعها البنك أمام مؤسساتنا "السيادية" الاقتصادية والمالية لكي تطبقها حتى نتحصل كل عام على مليار دولار؟

وصفت ايلين موراي دوافع القرض بانه يهدف لخلق "مناخ افضل للأعمال"، وشددت على مواصلة "الإصلاحات في القطاع المالي والشفافية لجلب المستثمرين". يبقى انه بعيدا عن التصريحات العمومية هناك تفاصيل أخرى أدق. 

وقد صدرت في بداية شهر مارس الجاري وثيقة بقيت محدودة الاطلاع او شبه سرية (ربما هذا أول مقال يتعرض إليها) تتعلق بالإعلان عن انخراط البنك في الخطوة الثانية والاهم لـ"استراتيجيا دعم" تونس والتي تسمى في أدبيات البنك "اطار شراكة مع بلد " (Country Partnership Framework) صاغها الفريق المكلف بملف تونس في البنك الدولي وعلى رأسه ايلين موراي حددت تصورها للوضع الراهن والهدف من القرض. 

هذه الخطوة الثانية سبقتها الخطوة الأولى وهي "التقييم الشامل للبلاد" (Systematic Country Diagnostic) والتي تمت في جوان 2015. وكان ذلك في ذات الوقت الذي قاما فيه وزيرا المالية والاستثمار والتعاون الدولي بزيارة إلى مقر البنك اعلنا اثرها بابتهاج كما علي أن أضيف، أن تونس تلقت وعدا من البنك الدولي  للحصول على قرض بـ"أربع مليار دولار" على أربع سنوات. 

في "التقييم الشامل" نقرأ أن الهدفين الأساسيين من القرض القادم هما: "النمو القائم على القطاع الخاص وتحسين التكافؤ في الفرص". في الوثيقة الجديدة تبدو اللغة اقل عمومية ونقرأ نقدا لفترة بن علي على أنها فترة "الاقتصاد المسير من الدولة" (state dirigisme) وهو مصطلح مستعمل في الأدبيات النيوليبرالية لتوصيف طيف واسع من الاقتصاديات التي يمكن أن توصف بـ"الاشتراكية".   

في وثيقة شهر مارس للبنك الدولي هناك حديث عن ثلاثة أعمدة لانخراط البنك مع تونس تركز على أهداف من نوع "تحسين مناخ الأعمال" و"تقليص الفوارق الجهوية والاجتماعية" و"تحسين الثقة في المؤسسات". يبقى انه مع البنك الدولي تبدو الأهداف دائما وردية المهم كيف سيتم تحقيقها. وهنا مربط الفرس. وهنا يبدو التركيز الأساسي على مسالة أولوية تفوق أي معطى آخر: خلق مناخ "صديق" لأصحاب الأعمال. 

من المعروف تاريخيا تبرم البنك الأيديولوجي والعملي من أي دور جدي للدولة في التنمية. ومن المهم أن نتذكر آخر "انخراط" كبير وضخم للبنك مع تونس إذ يعود إلى "الإصلاح الهيكلي" آخر الثمانينات بداية التسعينات. ومثلا تفسر مها يحيى في تقرير نزل الأمس على موقع مؤسسة كارنيغي فإن التجربة ليست في صالح البنك.

إذ تركز برنامج البنك في ذلك الوقت على "إعادة توزيع" حوالي مليون هكتار من الضيعات الفلاحية الدولية أي التي تملكها الدولة على فلاحين كبار. المفارقة أن هذا البرنامج كان تحت شعار التقليص من الفقر إلا أن نتائجه مثلما فصلها الباحث ستيفان كينغ في مؤلف يعود إلى نهاية التسعينات زادة في تفقير الفلاحين وإضعاف قدرتهم الشرائية ومنح امتيازات اكبر لدائرة أصحاب الامتيازات من داعمي سلطة بن علي. والاهم لم يحسن الإنتاج الفلاحي بل اضعفه. 

ربما يقول البعض: "وماذا فعلتم أنتم عندما كنتم في الحكم؟ هل أوقفتم الديون؟". في  أبريل 2013 عندما تم طرح مشروع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على الحكومة، صوت وزراؤنا ضد المشروع. وقبيل ذهاب وفد تونسي شهر ماي للتوقيع على الاتفاق كتبنا مراسلة رسمية للحلفاء نحذر من القيام بذلك بالشروط القائمة. وطلبنا لقاء عاجلا بقيادة الحزب الأغلبي (النهضة حينها) للتحذير من ذلك. وخلال اللقاء بدا لنا أن قيادة النهضة غير منتبهة لجدية الموضوع. وفي نهاية الأمر قام رئيس الحكومة علي العريض بإرسال رسالة رسمية باسم الحكومة لصندوق النقد الدولي، يشترط فيها تنفيذ الحكومة لـ"الإصلاحات" بألا تمس بالمستوى المعيشي والاستقرار الاجتماعي. 

وساهمنا من جهة أخرى في مسار تقييم "منظومة الدعم" خاصة من خلال ندوة نظمناها في إطار الرئاسة من خلال المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، بالتعاون مع وزارات عدة والمجتمع المدني في آخر أبريل 2013، حتى نقدم مقاربة تونسية بحتة وليست مسقطة من الخارج لعملية إصلاحها. لم يكن ذلك كافيا ويجب أن نتحمل المسؤولية لأننا لم نوقف الدين الخارجي، ولكن كان ذلك الحد الأدنى بالنسبة لنا وفقا لظروف تلك المرحلة وأمام أولوية إنجاح الانتقال الديمقراطي في مستواه السياسي، خاصة أننا كنا في مواجهة إيمان عميق لدى جزء مهم من نخبة السياسة والإدارة والأعمال والاقتصاد، بأن التحصيل على قروض أجنبية أشبه بالامتياز الذي يجب أن نشكر عليه الأطراف المانحة. 

الاقتراض ليس قدرا نهائيا. وعندما يصل إلى حد معين، ووصلنا إليه الآن، يصبح المشكل وليس الحل. ثم نحن إزاء وضع مكرر وليس جديدا. إذ يقول البعض انه يجب أن نغير "المنوال التنموي". بيد أن احد أعمدة المنوال الذي أدى إلى عدم الاستقرار والفوضى وثورة الناس وانعدام ثقتهم في مؤسسات الدولة هو أيضا المنوال الذي يعتمد على ذات نسق الاقتراض وذات "الإصلاحات". البدائل غير واضحة لكن النهج المكرر الحالي مأزق واضح. يجب أن نخلق البدائل ولن نفعل ذلك إلا بذهنية استراتيجية وطنية لا تعتمد على نصائح الآخرين كأنها تعليمات نهائية.