كتاب عربي 21

الكُره الوبائي المبرر للأقليات (3)

1300x600
في جميع قارات العالم، بل على مستوى الكرة الأرضية عموما، هناك أقليات مكروهة، ويكون ذلك في غالب الأحوال، لأن تلك الأقليات تسيطر على السلطة والثروة، بينما الأغلبية مهمشة، ولهذا فالصينيون مكروهون في إندونيسيا والفلبين وماليزيا، حتى وهم يحملون "جنسيات" تلك البلدان، بحكم طول مدة الإقامة فيها، أو لأنهم "واصلون ومسنودون"، والبيض ذوو الأصول الإسبانية والبرتغالية مكروهون في أمريكا الجنوبية.

واللبنانيون في غرب أفريقيا، لا يتجاوز عددهم بضعة آلاف، ولكنهم تعرضوا لهجمات واعتداءات عنيفة من سكان دول المنطقة، لأنهم سبقوا غيرهم في اكتشاف المعادن الثمينة هناك.

وكعادة فاحشي الثراء، فقد أقاموا علاقات قوية مع أنظمة الحكم الفاسدة في غرب أفريقيا، فكان أن صاروا مكروهين أكثر من رعايا بريطانيا وفرنسا، البلدين اللذين استعمرا ذلك الجزء من القارة السوداء لعقود طويلة.

وفي شرق أفريقيا، وتحديدا في كينيا وأوغندا، جاء الهنود في معية الاستعمار البريطاني، وطاب لهم المقام، فوجدوا فيها بلدانا متخمة بالمواد الخام والتربة الخصبة والماء الوفير، وأسواقا تفتقر إلى أبسط السلع الاستهلاكية، فقاموا بالتكويش على قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة والصيرفة، فحق عليهم غضب الأغلبية الأفريقية الفقيرة.. 

حتى إن ديكتاتور أوغندا الراحل إيدي أمين، وفي مسعى منه لنيل التأييد الشعبي، أصدر قرارا غير مسبوق، بطرد الهنود من بلاده في غضون شهر واحد، مع مصادرة ممتلكاتهم، فتزاحم عشرات الآلاف من الهنود في المطارات والموانئ لمغادرة أوغندا طلبا للسلامة، لأن كل من تلكأ في مغادرة ذلك البلد، غادر الحياة بالفؤوس والسكاكين والعصي.

دعكم من الصينيين والهنود واليهود، وتعالوا ننظر حالة دولة مثل الولايات المتحدة، فعلى الرغم من أنها "دولة عظمى"، ونصبت نفسها وصية على الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنها أكثر دولة مكروهة على مستوى كوكب الأرض، وإذا كانت هناك كائنات حية في الكواكب التي مارس فيها الأمريكان التلصص، فلا بد أنها حرصت على الاختفاء عن عدسات كاميرات المركبات الفضائية والمكوكات الأمريكية، حتى لا يستنتج الأمريكان أنها كواكب تصلح لإقامة بني البشر.

ودعك من الأمريكان، وهم أمة تشكلت من مغامرين وهاربين من التنكيل (المسيحيون البروتستانت واليهود أنموذجا)، بنوا مجدهم على جماجم سكان البلاد الأصليين، الذين صاروا يعرفون بالهنود الحمر -بينما هم لا هنود ولا حمر- وكل ما هنالك أن كرستوفر كولمبس -لا بارك الله فيه- كان مطالبا باكتشاف طريق قصيرة للهند، فوجد نفسه في ما صار يعرف اليوم بأمريكا الشمالية، ولو تكتّم على اكتشافه لاستحق جائزة نوبل للسلام عاما تلو عام، ولكن على الرغم من أنه فشل في مهمته الأصلية، فإن العالم كله يعمل على تمجيده مكتشفا للأراضي الجديدة.

دعك من كل ذلك، فكل الشواهد تؤكد أنه حتى حلفاء أمريكا في أوروبا يكرهونها، وهل قام الاتحاد الأوروبي إلا لتشكيل كتلة قوية تقابل أمريكا على الشاطئ الآخر من المحيط الأطلسي؟ وهل تم طرح عملة أوروبية موحدة (اليورو) إلا ترياقا مضادا للدولار الأمريكي، الذي هو العملة التي تقاس في ضوئها قيمة سائر عملات العالم، وسلعه الأساسية، ومواده الخام؟

نجحت أمريكا بالتخطيط الاستراتيجي وسياسة النفس الطويل، في تدمير منافسها الأوحد الاتحاد السوفييتي، وصارت المُصدّر الأكبر لديمقراطية السوق، وما يسمى بالعولمة، وكان هدفها الذي حققته من وراء ذلك تحطيم الدول الضعيفة وتفكيكها، أو جعلها مجرد منتج للمواد الخام وسوقا للسلع الأمريكية.

فكان أن أنشأت البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ثم سيطرت على تقنية المعلومات، ولا يوجد في عالم اليوم شخص لا يتعامل مع مايكروسوفت أو أبل، أو أمازون أو فيسبوك.

وبعد بسط سيطرتها على أسواق المال والسلع والخدمات والمعلومات، فقد كان من السهل عليها أن تسيطر على العالم لغويا، بدرجة أن الناس يحسبون أن الولايات المتحدة، وليس بريطانيا هي مسقط رأس اللغة الإنجليزية.

وشيئا فشيئا سيطر الأمريكان على أذواق الناس في كل القارات، فصار مايكل جاكسون أشهر من ماو تسي تونغ في الصين، وليدي غاغا أشهر من غاندي في الهند، وما من عاصمة كبرى في العالم إلا وسعت لاقتناء نسخة من مدينة ديزني أمريكية المولد والنشأة.

كل هذا وعدد الأمريكان أقل من ثلث عدد سكان الهند، أي أن الأمريكان أقلية وسط أكثر من ستة بلايين شخص في عالم اليوم، بالتالي فهم مكروهون، لأن ما بأيديهم من مال وسطوة وقوة لا يتناسب و"حجمهم الإحصائي".

ولا شك عندي في أن كراهية مختلف الشعوب للولايات المتحدة لها ما يبررها، ولكنها كراهية لا تخلو من "حسد": كيف ينجح شعب هجين لم يتشكل بعد أمة في تسيد الساحة الدولية، و"نحن بنينا سور الصين العظيم.. وشيدنا حدائق بابل المعلقة.. وبنينا الأهرامات، ودهنا الهواء دوكو؟".