كانت سهرة غير اعتيادية لأكرم شعبان وعائلته، فقد وعدهم بتناول العشاء في أحد المطاعم الواقعة على المدخل الغربي لمدينة
نابلس، شمال
الضفة الغربية، فهذه المطاعم الواقعة على شارع تم تعبيده حديثا؛ تقدم اللحم المشوي.
لكن هذا الجو العائلي الجميل يعكره صوت "زامور" آلية عسكرية
إسرائيلية، نزل منها جنود، اتكأ أحدهم على مقدمة الجيب العسكري وصوب سلاحه الرشاش نحو السيارات القادمة من نابلس إلى مدينة طولكرم، معلنا إقامته "حاجزا طيارا"، ليبدأ طابور من السيارات ينتظر دوره بالمرور من عند ذلك الجندي.
أمام هذا المشهد زفر أكرم بغضب، وطلب من عائلته عدم الاهتمام بما يحدث، فليس كل يوم تسنح له الفرصة بالخروج مع عائلته، وسعادته لن تخبو مع هذا المشهد الذي بات مألوفا.
ينصب جيش الاحتلال الإسرائيلي على امتداد شوارع الضفة الغربية المئات من
الحواجز الفجائية المتنقلة (الطيارة). وقد أحصى مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، في شهر نيسان/ أبريل 2015؛ 361 حاجزا متنقلا على الأقل.
وتنتشر في الضفة الغربية 96 حاجزا ثابتا، بينها 57 حاجزا داخليا منصوبا في عمق الضفة الغربية، بعيدا عن الخط الأخضر، بحسب إحصائيات مؤسسة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية لشهر نيسان/ أبريل 2015. ولا تتوفر إحصائية دقيقة للعام 2016 حتى الآن.
ومع انطلاق "هبة القدس" مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كثف جيش الاحتلال الإسرائيلي من إقامة الحواجز العسكرية على مداخل المدن والبلدات
الفلسطينية، وإغلاق الحواجز بين الفينة والأخرى، ما قطع أوصال الضفة الغربية وعزل المدن والتجمعات السكانية عن بعضها.
وأكرم ليس الوحيد الذي بقي في المطعم، فهنالك عشرات من مرتاديه ومرتادي المطاعم القريبة انشغلوا بجوهم الخاص عن ذلك "الحاجز الطيار"، لينضم إليهم عدد آخر من راكبي السيارات التي يعيق الاحتلال مرورها.
وهذا الشارع الذي تقع على أطرافه محلات تجارية مرموقة، تم ترميمه بتمويل أمريكي بعد أن كان في وضع يرثى له، فقد شهد مرور دبابات للاحتلال خلال اجتياحها لمدينة نابلس عام 2002. وقد اشتهر بوجود حاجز "بيت إيبا" (نسبة للقرية القريبة منه) الذي فرض على المدخل الغربي لمدينة نابلس حصارا خانقا إبان انتفاضة الأقصى، قبل أن يتم نقله عام 2009.
يستذكر أكرم ذلك الحاجز ويقول لـ"
عربي21": "كنا نقف هنالك ساعات طويلة في طوابير، الأمر لم يختلف كثيرا عن اليوم. سابقا كنا نقف بالانتظار على أقدامنا، اليوم نقف ونحن في سياراتنا... نقلوا حاجز بيت إيبا، لكنهم متى أرادوا يقيمون الحواجز".
ويضيف ساخرا: "هنالك اختلاف آخر. في حينها كان هنالك كشك صغير لبيع النقانق والفلافل، واليوم كما ترى مطاعم ومحال للحلويات ومعارض للمفروشات الفخمة".
وليس بعيدا عن "الحاجز الطيار" الذي يقيمه الاحتلال بين الفترة والأخرى في تلك المنطقة، هناك حاجز مستوطنة شافي شمرون الفاصل بين نابلس وجنين، وحاجز عناب القريب من طولكرم.
ويقول الباحث والمختص في شؤون الاستيطان، خالد معالي، إن الاحتلال يحاصر الضفة الغربية بالعديد من الحواجز، "أخطرها الحواجز الطيارة، التي ليس لها وقت أو مكان محددين"، مضيفا: "اعتاد الفلسطينيون عليها، مثلها مثل الحواجز الثابتة، وهي تسبب الكثير من المعاناة كون الجنود قد يعتقلون أو يقتلون أو يتعمدون الإذلال".
ويضيف في حديثه لـ"
عربي21": "الحواجز بشكل عام من أخطر ما يواجه الفلسطينيين، فهي تنكد وتكدر حياتهم، وهي تتسبب بخسائر في حياتهم على مختلف المستويات الحياتية، وهي مصدر قلق وإرباك دائمين".
ويلجأ الفلسطينيون إلى طرق بديلة أطول لتجنب الحواجز التي تغلق الطرقات، فيما تخصص الإذاعات المحلية جزءا من نشراتها الإخبارية لأوضاع الحواجز.
ويحاول الفلسطينيون قدر المستطاع التغلب على الأجواء المتوترة التي تخلقها الحواجز. فقد طور شاب فلسطيني تطبيقا للأجهزة الذكية يحمل اسم "أزمة"، يتيح للفلسطينيين معرفة إن كانت حواجز ونقاط تفتيش إسرائيلية معينة في الضفة الغربية تشهد ازدحاما ليتوجهوا إلى طرق ومعابر بديلة.
ويتيح مطور التطبيق، باسل صدر، للمستخدمين إمكانية إضافة حواجز أخرى، بطلب ذلك عبر المشاركة على صفحة خاصة بالتطبيق على "فيسبوك".
ويطلق فلسطينيون على حواجز الاحتلال تسمية "نقاط الموت"، حيث قتل الجيش الإسرائيلي عشرات الفلسطينيين على هذه الحواجز بزعم محاولتهم تنفيذ عمليات طعن، وآخرهم شاب وفتاة، على حاجز قلنديا شمال القدس، ليتبين أنهما شقيقان.
وقالت وزارة الإعلام الفلسطينية إن الاحتلال قتل الشابين بدم بارد على حاجز قلنديا، خلال رحلة علاج للشقيقة، بعد أن أخطأت التفريق بين مسارات الحافلات والمركبات الصغيرة، فيما امتنع الاحتلال عن تقديم الإسعاف لهما.
وأكدت الوزارة أن "إطلاق أكثر من 20 رصاصة ومن مسافة بعيدة (نحو 40 مترا)، وفقا لشهود عيان تواصلت الوزارة معهم، يفند زعم جنود الاحتلال، الذين يسرعون في الضغط على الزناد".
يذكر أن عدد الشهداء الفلسطينيين منذ بدء انتفاضة القدس مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ارتفع إلى 213 شهيداً، ويحتجز الاحتلال 18 جثمانا.
ويقول المصور الصحفي الفلسطيني أحمد طلعت حسن، إن الحواجز بكافة أشكالها تشكل معاناة يومية للمواطنين.
ويضيف في حديثه لـ"
عربي21": "الفلسطينيون مجبرون على التأقلم مع حواجز الاحتلال. هناك طرق بديلة والتفافية من خلال القرى المجاورة، كما أصبحت المسافة أكبر بين المدن والقرى وأصعب، نظرا لسوء الطرق وخاصة الترابية منها".
ويرى أحمد أن الاحتلال يهدف من خلال هذه الحواجز إلى تعجيز الناس والتضييق عليهم، وأحيانا اعتقال بعض الشبان بعد حجزهم لساعات.
أما أكرم الذي أنهي عشاءه قبل أن ينتهي طابور السيارات الذي يمر بشكل بطيء، فقد بات الآن يحمل هم العودة إلى بيته وسط هذا الازدحام الذي فرضه الاحتلال، ويظل أحيانا إلى ساعة متأخرة من الليل.