لماذا تعاني ثورة
مصر، ولماذا تعاني مصر بأكملها بسبب معاناة ثورتها؟ قد تكون هناك إجابات فكرية عميقة، أو أطروحات سياسية متعمقة. ولكني في هذا المقال أريد أن أستخدم مشرط جراح.. وليس مجموعة مسكنات. ثورتنا تعاني من ثقافة سوق "الفالصو"! وفي اللغة المصرية الدارجة، فإن "الفالصو" هو الشيء المزيف والمزور وغير الحقيقي. فلنتحدث عن سوق "الفالصو" المدمر لحياتنا، ولثورتنا.. إليكم التفصيل:
منذ عقود طويلة بدأت في مصر ثقافة احتقار "الأصلي" والميل نحو كل ما هو مزيف مزور .. بدأت سوق "الفالصو" تغزو حياتنا. قد يكون الفقر وضيق الحال أحد مسبباتها، أو انتشار الكذب، أو محاولات التميز الطبقي في واقع مؤلم. ليس هدف هذا المقال البحث عن السبب، بقدر ما هو لفت النظر إلى الكارثة. ومثل هذه الظواهر الاجتماعية، يصبح كشف عوارها، وانتشارها هو أول وأهم خطوات العلاج منها.
من المؤسف القول أن مصر تعيش مؤخرا، حالة متزايدة من شيوع سوق "الفالصو" في كل شيء في حياتنا. الأمر ليس فقط في الأسواق المزدهرة لبيع كل ما هو مزيف أو مغشوش من البضائع أو المنتجات. وليس فقط في نشأة صناعات كاملة تقوم على التزوير والغش والخداع. الأمر بدأ يتجاوز هذا بكثير. فبدأت تتحول الكلمات إلى زيف.. والعلاقات الاجتماعية إلى علاقات "فالصو" تغيب فيها المشاعر الحقيقية، وتسيطر المشاعر المزيفة.
هناك من يشتكي أن بسماتنا أصبحت "فالصو"، وعلاقات الأسر تحولت إلى نمط هش "فالصو" أيضا، وكذلك علاقات العمل، والصداقة، بل حتى الحب أصبح في نظر الكثيرين.. مزيف أيضا. المشكلة لم تعتد تقتصر على ماركات ملابس مزيفة مغشوشة حتى في محلاتها الأصلية في مصر، وإنما هناك نمط حياة بدأ يتكامل يقوم في أساسه على الغش والتزييف والخداع في كل شيء، وأي شيء.. وأحيانا دون مبرر!
ما أخطر أن يصبح الغش هو الأصل في التعامل مع الامتحانات.. كل الامتحانات.. وتبدأ الأسرة تبرر لأولادها ثقافة الغش في المدارس، بل تساعدهم عليها بدعوى الخوف على مستقبلهم. حياتنا تتحول مع الوقت إلى مجرد "قشرة" مزيفة كما هو الحال في صناعة الأثاث.. التي تركت "الأصلي" وأصبح الكثير من أثاثنا.. مجرد "قشرة". وانتقلت ثقافة "القشرة" من الأثاث إلى كل التعاملات.
كل شيء في مصر يتحول تدريجيا إلى قشرة.. إلى "فالصو".. الحياة الاجتماعية المصرية بدأت تتخذ من "الفالصو" أصلا لكل تعاملاتها ومظاهرها وقيمها أيضا. وهنا مكن الخطر الداهم. نحن نتحول إلى مجتمع يعشق "الفالصو"، ولا يقدر قيمة "الأصلي"، ولا يرغبها. هذا التردي الفادح سيدمر مجتمعاتنا، ويدمر حياتنا السياسية أيضا. فهل السياسة أيضا.. أصابها ما أصاب الحياة الاجتماعية.. هل هناك مظاهر للحياة السياسية "الفالصو" أيضا! وهل تقتصر على فريق سياسي بعينه؟
من يرى رئيس الانقلاب وهو يتحدث مؤخرا، ويكذب بكل وقاحة، ويروي خيالات تجربته على "الكورنيش"، يعرف كم الانحدار الذي وصلنا له في ثقافة التزييف.. وعندما يصفق له كبار رجال دولته، وكبار قادة جيشه، وهو يكذب علنا، والكل يعرف أنه يكذب بلا حياء.. بل هو كذب فاضح لا حاجة له، ومع ذلك فالكل يصفق، فنحن أمام سيادة ثقافة "الفالصو" على كل قيم الحياة السياسية للانقلاب.
انقلاب مصر يقوم أساسا على بيع "الفالصو"، وعلى تأكيد معاني الزيف من اليوم الأول. من منا لا يعرف فعليا أن هناك مبالغة ضخمة حدثت في أعداد وطبيعة يوم "30 يونيو". كان يومها هناك غضب حقيقي "أصلي" بين نسبة من الناس بلا شك، ولكنه لم يكن أبدا كافيا أو مبررا لانقلاب عسكري مجرم. جبهة الإنقاذ كانت "فالصو".. 3 يوليو لم يكن إلا "فالصو".. زيف كامل تزين للشعب، وكنا جميعا ندرك ذلك.
البعض سكت، والبعض غضب، والبعض ثار.. لكننا لم نواجه ثقافة "الفالصو". واستمر الأمر يستفحل.. التفويض كان "فالصو"، والانتخابات كانت "فالصو".. وحكم مصر رجل اسمه "عدلي منصور" لم يكن إلا "فالصو".. والكل كان يعرف.. وتحول الحراك السياسي في مصر إلى كذبة كبرى.. يشارك في صناعتها آلاف المجرمين، ويتقبلها ملايين القابلين بثقافة وحياة كلها "فالصو"، فأنتجت مجرم قاتل يستفيد ويستغل سوق "الفالصو" من أجل قهر كل مصري وسرقة مصر أيضا.
الإعلام المصري الإخباري أصبح إعلام "فالصو" .. السياسة الخارجية المصرية أصبحت "فالصو". سياسة خائنة تبيع حقوق مصر في مقابل لقطات زائفة "فالصو". أصبحت الحياة السياسية المصرية مستعدة للتضحية بالقيم والحقوق والجزر والمياه والغاز .. من أجل زعامة "فالصو". الإعلاميون التابعون لهذا النظام الانقلابي فقدوا كل احترام لأنفسهم، وتحولوا من تسويق الأفكار "الفالصو" .. إلى أنهم بأنفسهم وشخصياتهم .. أظهروا أنهم أيضا ليسوا إلا "فالصو".
ولكي أكون محقا، وعادلا -وليغضب من يغضب - فقد كانت ثقافة "الفالصو" أيضا سائدة في فترة حكم الإخوان، وهناك عشرات الأمثلة عليها أيضا. ليس هذا وقت عتاب، ولا يليق الحديث عن التفاصيل إلا بعد استعادة الحرية. لكن الحياة المصرية أيامها كانت أيضا مليئة بنماذج الحياة "الفالصو". ألا يكفي أن مجلس الشعب أيامها جمع ما يزيد عن 120 عضوا من حزب النور "الفالصو"؟ كان هناك الكثير والكثير مما يمكن تبريره، لكنه في الحقيقة كان استمرارا لثقافة "الفالصو". ليس الوقت وقت شرح ذلك، إلى أن تنتهي الغمة، ويسقط الانقلاب، وتعود الحريات. لكن الحقيقة التي لا تحتمل الشك، أن ثقافة "الفالصو" استمرت في حياتنا السياسية بشكل مرعب، حتى خلال فترات الحرية. جزء من الثمن الذي يدفعه الأحرار وكل المصريين اليوم هو لأننا قبلنا طوال الأعوام الماضية أن تسود حياتنا ثقافة "الفالصو".
ليس الوقت مناسبا للوم أو عتاب. لكن من المهم أن نؤكد – لكي نتعظ الآن وفي هذه الأيام – أننا كنا نحذر من ذلك فيما سبق. كان واضحا أننا نثق في صدق من انتخبناهم، لكننا كنا نحذر من خيارات جاءت بشخصيات "فالصو" كالسيسي ومحمد إبراهيم.. وقيادات حزب النور، وغيرهم. كنا ندعو من بيدهم الحكم إلى عدم المبالغة، فلا نعرف عنهم إلا الخير، والصدق مع الناس، ولكن ثقافة الجهاز البيروقراطي في مصر كانت تصر على أجواء "الفالصو". كان الأصل هو مواجهة الزيف السياسي والاجتماعي، وليس تبريره والمشاركة فيه. هذه حقائق سوف يسجلها التاريخ بصرف النظر عن الظلم الذي تعرضت له الحرية في مصر، والحكم المصري القائم على الانتخاب الحر أيضا.
ثقافة "الفالصو" أفسدت حياتنا السياسية والاجتماعية بشكل بشع لا يمكن الهروب من مواجهته إن أردنا لمصرنا التقدم. وما ذكرناه في هذه الفقرة مهم للغاية، لأننا اليوم لا زلنا نعاني من حالة "الفالصو" بعد كل المعاناة التي تمر بها
الثورة المصرية، والتضحيات الحقيقية التي قدمها الكثير والكثير من أبناء مصر، وهذا هو ما يمس بثورتنا ومستقبلها، ومستقبل مصر أيضا. ولننظر إلى استشراء ثقافة "الفالصو" في الطرف المقابل للانقلاب، والمقاوم له أيضا.
ثقافة "الفالصو" بدأت تظهر ملامحها بوضوح في إعلام المقاومة.. في شخصيات عامة تخطط للتنازل التدريجي عن مواقفها لأنها شخصيات "فالصو".. شخصيات أخرى تبالغ مبالغات لا يسندها لا واقع ولا منطق ولا عقل، ولا حتى التصرفات الشخصية، وكل ذلك يظهر بلا شك أننا أمام نماذج "فالصو".
الخلافات تعصف بجماعات مقاومة، فيخرج بعض قادتها ليقولوا أن "الخلافات تم حل أغلبها"، والكل يعرف أنها ليست الحقيقة.. فنحن أمام نموذج معقدا في سوق "الفالصو". يمكن أن تكون مظلوما، ولكنك أيضا "فالصو". يمكن أن يكون أبناء فريقك أو تيارك في السجون والمعتقلات، ودفع بعضهم حياته ثمنا للحرية، ولكنك أنت "فالصو"، ترتزق على مصيبتنا، وتستغلها من أجل أن تحقق لنفسك أو لتيارك مكسبا أو مغنما، وأنت أيضا مظلوم، ولكن كذلك "فالصو". لا تخدعوا الناس.. فيمكن بكل بساطة أن يجتمع أن تكون مظلوما، وأن تكون أيضا "فالصو".
جلست مع شخصيات عامة مهمة ترفض بكل وضوح مواقف مبدئية محددة في اللقاءات الخاصة، وتهاجمك أنك متحجر، ولست واقعيا لأنك تطالب الناس أن يكون "أصلي"، وأن يلتزموا مبادئ الثورة ظاهرا وباطنا. وتخرج مثل هذه الشخصيات بكل برود للعامة لتقول عكس ما تقوله في اللقاءات الخاصة تماما، لأنهم شركاء في سوق "الفالصو". يتحدث بعضهم عن ثقافة التعاون والاتحاد والاصطفاف، وهم يمارسون أبشع أنواع الإقصاء لرفقاء دربهم.. أنهم شركاء في سوق "الفالصو". ولا أعمم في كل ما سبق، فهناك ممن ينادون بالاصطفاف من يلتزمونه حقا، وهناك من يرتزقون عليه، والعجيب في الأمر.. أن الكثير يعرف ويسكت.. لأننا جميعا.. بدرجة أو أخرى.. شركاء في تنمية سوق "الفالصو".
عندما يتحدث البعض عن التضحيات، وهو يفر ويتهرب منها، إن مست حياته أو ماله أو مكانته، فهو عنصر رئيس في سوق "الفالصو" الثوري. ومن يتحدث في الغرف المغلقة عن الحلول السياسية، ثم يخرج على الشاشات ليؤكد على حتمية الخيار الثوري، فهو "فالصو"، ودعوته "فالصو" مهما حاول أن يستخدم مصطلحات الدبلوماسية الشرعية، والتورية والتعريض، وما شابه من حيل لا هدف لها إلا إخفاء.. أنه في الحقيقة "فالصو".
شخصيات عامة تتدنى في تصرفاتها، حتى يفقد الشباب الثقة في كل الكبار، لأنه "فالصو"، وشباب يرتزق على كلمات الثورة أيضا لأنهم "فالصو" وأناس يرتزقون على الثورة، وغيرهم يرتزق على الدين، وثالث يرتزق على الشرعية، ورابع يرتزق على الحرية، وخامس يرتزق على الشباب، وسادس وسابع وثامن.. تختلف المشارب ويتفقون جميعا للأسف في أنهم "فالصو".
ما هو الحل إذن. النقطة الأولى في مسار الحل، هو كشف الواقع المؤلم، ورفضه والاعتراض عليه. هذه نقطة البداية الأهم اليوم. هناك أجيال لم تعرف من الأسواق إلا أسواق "الفالصو"، وبالتالي أصبحت تحتقر كل ما هو أصلي، أو تستغرب له، أو تتعجب من القيمة التي يدفعها أي إنسان في أي شيء أصلي. في نظر بعض المرضى من هؤلاء اليوم من يرى أن التضحيات ليست إلا غباء، والعطاء خيال، والمبادئ كلمات تقال فقط، والصبر حيلة العاجز، والأحلام إضاعة للأوقات.
سوق "الفالصو" براق.. وسهل.. وسريع المكسب.. وحرام حرام حرام! حرام سياسي واجتماعي، فليس لنا التحدث عن حكم شرعي. نتحدث عن الحرمة السياسية والاجتماعية لأسواق "الفالصو" التي طغت في حياتنا، حتى أضعنا فهم أو تقدير أو قبول أن "الأصلي" هو الأصح وهو الأفضل وهو الغاية أيضا.
لا يستطيع أي منا أن يبرئ نفسه من التأثر بتلك الثقافة بدرجة أو أخرى. سوق "الفالصو" أصبح طاغيا في حياتنا. لكن لابد من الإفاقة ورفض الاستمرار في حياة "الفالصو"، والتحول التدريجي نحو حياة لا زيف فيها ولا خداع، ولا تحكمها سوق وثقافة "الفالصو".
هل هناك فرصة للتغيير: بالقطع نعم، ولكن لها شروط، أهمها هو الخلاص من الأفكار "الفالصو". لن تنتصر الثورة إلا إن رفضنا ابتداء الاستمرار في أسواق "الفالصو". طريق التغيير طويل وشاق، وقد يحتاج من الوقت والصبر والجد والاجتهاد الكثير. هذا هو سوق "الأصلي". الحرب الحقيقية في مصر، التي يجب أن نفوز بها.. هي الحرب بين "الفالصو" و"الأصلي". هذه الحرب ساحاتها تمتد لكل مناحي الحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتربية وغيرها. هذه الحرب هي الحاجز الحقيقي بيننا وبين الحرية والتقدم.
التغيير فعل أصلي.. وليس فعلا مزيفا. لو كان مجتمعنا به ثقافة تقدر "الأصلي"، وترفض الزيف، لاستحال أن نقبل الانقلاب، ولاستحال أن تمر مذبحة رابعة التي نتذكر مرور 1000 يوم عليها، ونحن نقرأ هذا المقال. لو كنا نرفض "الفالصو" لما كان هناك فرصة لثورة مضادة أن تنتصر على الحق، وأن تجر مصر إلى التخلف من جديد. لو كنا ثوارا "أصلي" بحق، وليس بيننا الكثير من "الفالصو" لما تأخر النصر طوال تلك الأعوام الماضية، ولما حكمنا شخص "فالصو" أبدا.
إن حقيقة تأخر النصر هو أن التنظيف في مصر يستغرق وقتا أطول مما نريد جميعا. هذا التنظيف الحادث يكشف "الفالصو" منذ اليوم الأول للثورة المصرية، وقد كشف زيف الفلول.. ثم زيف أدعياء الحرية.. ثم زيف أدعياء الثورة.. والآن يكشف زيف أدعياء الدين.. وأدعياء الخلاص من الانقلاب.. وأدعياء التغيير أيضا.
هناك فرصة حقيقية في التغيير، ولكن تأخر الانتصار سببه في الحقيقة هو كثرة "الفالصو" في صفوفنا. هذه سنة من سنن الكون، وقد أكدها الخالق جل وعلا، أن النصر يأتي فقط بعد التمييز، وهو من قال تبارك وتعالى: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب". فإن أردتم استعجال النصر، والخلاص من الانقلاب، والتقدم بمصر للأمام، فلنرفض جميعا بكل ما أوتينا من قوة سوق "الفالصو"، ولنقبل بتكاليف وقيمة وتضحيات، وجودة سوق "الأصلي". وقد خاب من زيف حياته.. ترك مبادئه، ولن ينتصر أبدا.
#باسم_خفاجي