عادت عمليّات القتل العبثيّة الوحشيّة تفرض الموت حقيقة العيش في بغداد. "داعش" مسؤول مباشر عن هذا الموت. لكنّ النظام السياسيّ العراقيّ يتحمّل وحده اليوم مسؤولية بروز "داعش" وتمدّده. ينتهي "داعش" ويرتفع شبح الموت عن العراقيّين حين يدفن ساسة البلد النظام الطائفيّ الإلغائيّ الإقصائيّ الذي جذّر الفرقة واليأس.
لكن لا نهاية تلوح لهذا النظام. الساسة معنيّون بحصصهم في الحكومة أكثر مما هم آبهون بضحايا الإجرام "الداعشيّ" وبمأساة الملايين من أبناء شعبهم الذين انتهوا مشردين في مخيّمات الذل والعوز والقهر.
في بداية مرحلة الانهيار التي تبعت سقوط دكتاتوريّة البعث الصدّامي، وُجّه اللوم حقا إلى الولايات المتحدة التي ألقت البلد في أتون الفوضى. لكنّ سنوات عديدة مرّت مذ ذاك. وتهيّأت للقوى السياسيّة العراقيّة مئات الفرص لإعادة بناء العراق وفق أسس ديمقراطيّة إنسانيّة تجمع العراقيّين حول رؤية جديدة مستنيرة لبلدهم. فشلوا في كلّ فرصة سابقة. ويفشلون الآن مرة أخرى.
فبينما يُمعن "الداعشيّون" في ذبح الأبرياء وتأجيج العنف المذهبيّ، تُمعن القوى السياسيّة في نهجها المفكّك للهويّة الوطنيّة، المجذّر للفرقة، الموتّد لليأس والمدمّر لما بقي من الدولة.
فـ"داعش" نتيجة لأزمة العراق وليس سببا لها. مردّ انهيار الدولة العراقية هو إلغائيّة منطلقات نظامها السياسي. النظام قائم على محاصصة سياسيّة انتهازيّة مبنية على نزعات مصالحيّة. تريد القوى التي سيطرت على الحكم بعد سقوط صدّام الاستحواذ على كلّ شيء في البلد وفق معادلة صفرية ترى نصرها في تهميش الآخر وقمعه وحرمانه حقوقه.
سيستمرّ الدمار في العراق إلى حين تغيير هذه المعادلة. لا أحد يتوقع أن يحدث هذا التغيير فوريّا. لكنّه يمكن أن يبدأ بتوافق سياسيّ يُنتج حكومة جامعة تتبنّى برنامجا وطنيّا يُعيد بناء الهويّة الوطنيّة العراقيّة بما يلغي التقوقع العصبيّاتيّ الطائفيّ والعرقي.
بيد أنّ الواقع المُرّ أنّ ذاك هدف بعيد المنال. لن تنحو القوى السياسيّة نحو التوافق من دون ضغوط وجهود دوليّة وإقليميّة. وهنا مكمن مشكلة أكبر. الولايات المتحدة، التي تتحمل مسؤولية أخلاقية خاصّة إزاء العراق نفضت أيديها منه. إيران تقارب الوضع في بغداد من منظور صراعها الأوسع مع جوارها العربيّ وتستخدمه ورقة ضغط على عالم العرب بعد أن امتلكت قرار الكثير من قواه السياسيّة. والدول العربيّة غارقة في أزمات عدة وليست بصدد بذل أيّ جهد حقيقيّ للتأثير في العمليّة السياسيّة في العراق.
ملخّص الحال أنّ العراق يتدحرج نحو أوقات أشدّ صعوبة. هذا يعني أنّ العالم العربيّ كلّه سيواجه تبعات ذلك. فـ"داعش"، الذي بات تهديدا للمنطقة وللعالم، وُلد من الفشل العراقيّ. وسيكون مسخه الأسوأ الذي سيولد من استمرار الفشل تهديدا أكبر.
والفشل العراقيّ يُلخّص في جملة واحدة: الفشل في بناء دولة المواطنة. لا يبدو أنّ العراق سيستدرك هذا الفشل قريبا. لكن في مأساته درس يحتاج أن يستوعبه كلّ دعاة الجهل الذين يدفعون بقيّة المنطقة نحو الهاوية بتوظيفهم الخطاب الطائفيّ الإلغائيّ الإقصائيّ أداة في معاركهم السياسيّة. ذاك أنّ أيّ مكتسب آنيّ يحققه هذا الاستخدام سينقلب سريعا جحيما سيحرقهم قبل غيرهم.
عن صحيفة الغد الأردنية