كتاب عربي 21

بأي معنى صنعت واشنطن تنظيم "داعش"؟

1300x600
أسوأ ما يشوه وعينا بوجود مؤامرات حقيقية هو التفكير المؤامراتي السطحي والساذج. من الأمثلة الرائجة على ذلك مؤخرا التداول الواسع في الشبكات الاجتماعية لفقرات وهمية ومختلقة منسوبة لهيلاري كلينتون تتضمن مثلا أن "داعش صناعة أمريكية" وتنقل "اعترافات" سخيفة من نوع أنه "تم الاتفاق على إعلان تنظيم الدولة يوم 5 تموز/ يوليو 2013، وکنا ننتظر الإعلان لكي نعترف نحن وأوروبا بها فورا... وتم الاتفاق مع بعض الأصدقاء على الاعتراف بـ"الدولة الإسلامية" حال إعلانها فورا وفجأة تحطم كل شيء (بوصول السيسي للسلطة)". الثقة المهترئة لعدد كبير من العرب والمسلمين في الولايات المتحدة توفر مناخا نفسيا مناسبا لتقبل مثل هذه الخرافات.
 
لكن في المقابل هنا فعلا جدية في القول بدور للولايات المتحدة في "صناعة داعش"، يبقى أنه من الهراء التفكير في أن واشنطن صنعت بطريقة "الروموت كونترول" تنظيم الدولة من لا شيء، وبشكل مقصود وبترصد. "داعش" صناعة الظروف المعقدة بكل أبعادها لمنطقتنا، وأحد أبعاد هذا التعقيد السياسة الأمريكية. في المحصلة عوض أن نركز على كيفية مساهمة هذه السياسة فعلا في صناعة تنظيم الدولة، يغرق البعض بهوس "إيمان العجائز" في خرافات تشوه حقائق التورط الأمريكي وتجعله كاريكاتوريا وغير قابل لتصديق أي شخص عاقل.
 
كتب الكثير في السنتين الأخيرتين عن سلسلة الإخفاقات الأمريكية التي خلقت الظرف المناسب لنشأة "داعش". لكن البرنامج التلفزيوني "فرونت لاين" نجح في الكشف عن الجديد وتلخيص كل ما قيل في وثائقي تم بثه وسط هذا الأسبوع بعنوان "التاريخ السري لداعش". كما يوثق التقرير الخطوات التي اتخذت (أو لم تؤخذ) من قبل إدارتي جورج دبليو بوش وباراك أوباما التي ساهمت فيما نحن فيه الآن.
 
وفقا لجميع الخبراء، بما في ذلك مسؤولي قسم التحاليل الاستخبارية في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والذين يدلون بشهاداتهم بقوة في فيلم "فرونت لاين"، أن الزرقاوي لم يكن يتعاون مع صدام حسين، رغم أن كولين باول خصص جزءا كبيرا من خطابه الشهير في الأمم المتحدة لتبرير الحرب على العراق لعلاقة مفترضة بينهما. والمثير للانتباه، حسب شهادات محللي "السي أي إي" غير المسبوقة، فإن الإدارة الأمريكية أحبطت سنة 2002 إمكانية القضاء على معسكر الزرقاوي في أفغانستان لتوظيف وجوده في سياق تبرير الحرب على العراق. تلك الحرب، ومن المفارقات، ساهمت بقوة في صعود تنظيم الدولة.

وتوضح ندى بيكوس، التي كانت المحللة الأساسية في المخابرات الأمريكية المشرفة على ملف الزرقاوي من أيام وجوده في أفغانستان، كيف أرادت وكالة الاستخبارات المركزية قتل الزرقاوي من لحظة وصوله إلى العراق، ولكن توقفت عن القيام بذلك تحت ضغط الإدارة الأمريكية، خاصة ديك تشيني. كما حاولت هي وبعض زملائها إشعار البيت الأبيض مباشرة حول حقيقة أن الزرقاوي لم يكن جزءا من القاعدة ولا توجد له أي صلة بصدام، ولكن من دون جدوى. حاول مكتب نائب الرئيس تخويفها وإسكاتها. وقالت إنها تعتقد أنه "لن نكون حيث نحن اليوم" لو تصرفت الولايات المتحدة بشكل مبكر.

تعاظم دور الزرقاوي خاصة بعد حل الجيش العراقي وتزايد الدور الطائفي الشيعي. كتبت بيكوس، بداية التصدي المسلح للاحتلال، الجزء الخاص بالعراق والذي كان من المفترض أن يتضمنه الموجز اليومي الرئاسي والذي أشار إلى المقاتلين بـ "المتمردين" (insurgents)، قيل لها أن تستخدم كلمة مختلفة لكلمة "التمرد"، خصوصا مع تواجد حالة إنكار من الإدارة الأمريكية، وتخوفها من أن مجرد استعمال هذا التعبير سيظهر كأن "العراقيين لم يحتضنوا ما نقوم به في العراق". وعمقت إدارة سجن "بوكا" الذي كان بمثابة "كلية للجهاديين" أكثر منه سجنا في التقريب بين شبكة الرزوقاوي والعراقيين المتذمرين من الوضع الجديد خاصة من المثلث السني. وهنا تشكلت شخصية أبي بكر البغدادي وغيره من قيادات تنظيم الدولة الأساسيين فيما بعد.

في المقابل، أخفقت إدارة أوباما في مواصلة ضمان السيطرة على ما تبقى من التنظيم الذي تم خلال مرحلة الجنرال بترايوس وتكتيك "الصحوات". حيث بقيت مندهشة أمام الصعود السريع لـ"داعش" بعد اختراق الاحتجاجات في سوريا والتسلح المبكر لها من قبل عدد من الأطراف الإقليمية. إذ تجاهلت ما يحصل في العراق، وكان همها الأساس تحقيق ولو رمزيا وعد أوباما بالانحساب من هناك. وباركت عمليا القمع الدموي لحكومة المالكي لـ"ربيع الأنبار". وعندما سنحت فرصة "الثأر السني" انقضت "داعش" على الفرصة.

في المحصلة ساهمت الإدارة الأمريكية في صناعة "داعش" في البداية من خلال سياسة احتلال وتسلط متهورة ونرجسية خلقت ظروفا ملائمة لصراع طائفي دموي. ثم مع إدارة أوباما من خلال سياسة الدهشة والانعزالية المفرطة عن المنطقة وتعقيداتها، وباعتبار "داعش" شأنا إقليميا وليس تهديدا وجوديا يستحق الانتباه.

لكن من أهم عناصر هذه السردية البديلة لسردية المؤامراتية الساذجة أن الدور الأمريكي هو فقط أحد الأدوار التي صنعت "داعش". باقي الأدوار لعبها تطرف إيديولوجي وتقوقع طائفي عام ترعرع في حالة التعفن العربي الذي استغرق عقودا منذ دولة الاستقلال، ونظام بشار الأسد بقمعه الوحشي وبراميله المتفجرة ونظامه المتمركز حول عصب طائفي بعد أن لعب ورقة القاعدة في فترة ما بعد سنة 2003 فاكتوى بنارها فيما بعد، ونظام المالكي مع حليفه الإيراني في بغداد الذي كشف بلا أي مساحيق عن وجه طائفي قبيح وعنيف، وممارسات متعاظمة بشبهات الفساد.

منذ الزرقاوي أصبح توجه هذا التيار التغذي من اشتعال الصراع الطائفي، وكل من يسكب الزيت على النار الطائفية كان يلعب لعبة الزروقاوي وخلفائه إلى أبي بكر البغدادي.

 تمت صناعة "داعش" في مطبخ طباخوه متعددون وكل أتى بوصفته الخاصة لتكون الخلطة النهائية مسخا لن يندثر بسهولة.