إذا استطال الوضع الميداني في
اليمن، واستمر على ما هو عليه لفترة قادمة، فإن الحصيلة المنطقية ستعيدنا إلى ذات المربع الذي عرفناه في بلدان الحروب الداخلية المديدة.. تلك التي أفضت في نهاية المطاف إلى الدولة الفاشلة، وتخلَقت في أحشائها عناصر تسيير وإدارة مُجافية للدولة ومعناها، وكان أمراء الحرب الفاعلين المباشرين فيها على الأرض.
أقول هذا الكلام استنادا إلى ما أسلفتُ من بيان ذو صلة بحالات الحروب الممتدة.. تلك التي تُفقد فرقاء الشرعية الظاهرة، والمكونات المرجعية المعتمدة وفق نواميس الدولة وقوانينها.. تُفقد هؤلاء جميعا الحق العملي في أن يكونوا المُعبرين والقائمين على ما يجري على الأرض، والشاهد على ذلك ما نراه الآن من تباشير تمرُدات ضمنية على طرفي المعادلة الصراعية الثنائية المحصورة في الشرعية ومن يواليها من جهة، والتحالف «الحوثصالحي» ومن يواليه من جهة أُخرى، حتى لتبدوا هذه الثنائية منخولة بروافد إرادوية مُتطيرة.. تنشر ظلالها في طول الساحة وعرضها، وحتى يكون الكلام واضحا، فمن الجدير بالإشارة إلى أن القادة الميدانيين في التحالف الحوثصالحي بدأوا يتصرفون بمعزل عن التوجيهات السياسية لقادتهم«الروحيين» القابعين في صنعاء ومران، وقد كان اختبار وقف إطلاق النار والهُدن المتكررة خير دليل على ذلك، حيث بدا الشرخ واضحا بين أقوال أمراء السياسية الحوثصالحية، وما يجري عمليا على الأرض في صنعاء وتعز والبيضاء، على سبيل المثال لا الحصر.
يقول البعض إن هذا نوع من المناورات السياسية المكشوفة وتوزيع الأدوار، وفي هذا شيء من الصحة، لكنه لا يعبر عن كل الحقيقة.
بالمقابل تتوزع الخريطة الواقعية للسيطرة والتحكم المُجيرين على الشرعية في الحضور الفعلي الراكز للقادة الميدانيين في عدن وحضرموت وأبين ومأرب، بمقابل تباعد القيادات السياسية الكبرى عن معادلة الفعل اليومي على الأرض، وهو الأمر الذي أفضى إلى ارتفاع الأصوات المُطالِبة بشرْعَنة الشرعية، بل خَرْسنتها بالحضور المُشارك في الميدان، لا الإدارة من الخارج، انتظارا لليوم الموعود الذي ستكون فيه الأرض مفروشة بالسجاد لاستقبال قادة الشرعية القادمين من متاهة الدوران في الأروقة المخْملية، بدلا من القبض على جمرة الحقيقة، ومباشرة مسؤوليتهم في الميدان وعلى الأرض، كما يفعل القادة الميامين للمقاومة وقوات
التحالف العربي.
الأمثلة في هذا الباب كثيرة، ولعل الإشارة العابرة للأداء الإعلامي في الداخل، وتأمين الخدمات الحيوية للمواطنين، وخاصة الطاقة الكهربائية، خير شاهد على متواليات الشروخ والتصدعات التي تتطلب معالجات استباقية مُبادئة من قبل الشرعية، ولا يمكن لمثل هذه المعالجات أن تكون دائمة ومستمرة إلا بالاعتماد الأساس على مقدرات الداخل أولا، ودعم الأشقاء تاليا.
قبل حين كانت الصومال تعاني الأمرين من غياب القيادة السياسية عن العاصمة مقديشو، وكانت التبريرات «الأمنية» مشابهة لما نسمعه الآن في الحالة اليمنية، ولم تتمكَن الدولة الصومالية الجديدة من بناء نواتها الصلبة في العاصمة مقديشو إلا بعد أن ارتضى الجميع دفع ثمن الاستحقاق والعودة للداخل، وهكذا تبخَر أُمراء الحرب، وخبت وتيرة القرصنة البحرية، وانزوى المتطرفون في الصحارى.. بعيدا عن المدن، وبدأت عجلة التنمية تأخذ مجراها في أقاليم الصومال المختلفة، فيما ازدادت الُلحمة الوطنية متانة وقوة، بعد أن اكتشف الكثيرون أنهم كانوا في ضلال مبين، وأنهم استخدموا وقودا لحرب جائرة يديرها مجرمون منحرفون.
استمرار الوضع في اليمن على ما هو عليه من شأنه أن يضاعف المساحات الفاصلة بين القادة السياسيين، والقادة الميدانيين على الأرض، وفي مثل هذه الحالة تصبح الاتفاقات السياسية للفرقاء المُدجَجين بالألقاب فاقدة لشرعية حضورها الناجز على الأرض، وهو الأمر الذي يقتضي مبادرة أساسية، بل مبادأة جوهرية للشرعية اليمانية المقرونة أصلا وأساسا بالدولتية والنظام والقانون، والقادرة على ترجمة المعنى لتَحمُلها المسؤولية الجسيمة، من خلال تَحمُل كامل أبعادها، وصولا إلى مساعدة الطرف الخصم لأن يكون شريكا في ميزان العمل الوطني التوافقي المطلوب اليوم قبل أي يوم آخر.. تماما كما كانت المبادرة الخليجية مطلوبة في لحظة إسعاف استراتيجي للذاكرة السياسية اليمنية المنهكة بثقافة التنافي العدمي والشطب المتبادل.
يتموْضعُ الجميع في هذه اللحظة، على درب ماراثون سياسي صعب، وهنالك فرصة أساسية تلوح في الأُفق، وخيارات ممكنة على درب التسوية التي تعيد الدولة الضائعة، وتختصر المسافة نحو مأسسة الحياة، بمساعدة ناجزة من الذاكرة الجمعية المُتَقدة للأمة، ودعم حدِ الاحتياط الاستراتيجي للجوار التاريخي العربي، والمجتمع الدولي برمته، فهل يرتقي المتحاورون «الأشاوس» في الكويت إلى مثابة الشجاعة الكبرى واستحقاقاتها الجوهرية ؟
(عن صحيفة الخليج الإماراتية)