قيل هذا القول «الثورة تأكل أبناءها» أثناء الثورة الفرنسية عندما راح قادتها يقتلون بعضهم بعضا خلال ما سمي عهد الإرهاب. والواقع أن هذا القول ينطبق بصورة أجلى في الثورات العربية، ولا سيما ثورة 14 يوليو (تموز) في العراق. أما في فرنسا، فقد اشتهر ثلاثة من قادتها. روبسير ودانتون ومارا. وانتهوا جميعا بنهايات مفزعة. حكموا على دانتون بقطع رأسه وساقوه إلى المقصلة (الكاليتون)، أداة الإعدام. قال للجزار القائم بها: «أيها الجلاد بعد أن تقطع رأسي، ارفعه عاليا ليراه الجمهور جيدا. إنه رأس جدير بالنظر».
ولكنه عندما صعد إلى منصة المقصلة، وجد زميلا آخر ينتظر دوره عليها فالتمس من القاضي أن يسمح له بتقبيله وتوديعه الوداع الأخير، فرفض القاضي ذلك فقال له: «يا غبي، تمنعني من تقبيله وبعد لحظات سيكون كلا رأسينا في سلة الرؤوس يتبادلان القبل!».
ذكرت العراق في هذا المساق. وسمعنا فيه عن نهاية مشابهة عندما حكم العقيد المهداوي، رئيس محكمة الثورة في عهد عبد الكريم قاسم. كان المتهم في قفص الاتهام سعيد القزاز، وزير الداخلية السابق. ياما وياما وقع على قرارات إعدام بحق شتى المتهمين كونه وزير داخلية. انقلبت الآية عليه بعد ثورة 14 تموز فألقوا القبض عليه وأحالوه لمحكمة الثورة برئاسة المهداوي(!). بلغ من شعبيته أن جلب الجمهور عددا من الحبال ألقوا بها حوله ليذكروه بأن هذا سيكون مصيره، معلقا بحبل من المشنقة. ولكن الحبال والهتافات في المحكمة التي سميت في إذاعة صوت العرب بمحكمة سركس المهداوي! لم ترعبه، بل ألقى كلمة من أشجع وأبلغ كلمات الدفاع. قال «أنا أعرف أنكم ستحكمون عليّ بالإعدام، ولكني أقول هذا عندما سأصعد المشنقة سأرى تحت قدمي أناسا لا يستحقون الحياة!».
أجاب عليه رئيس المحكمة: «تقول ذلك عن أبناء الشعب العراقي؟»، فأجابه قائلا: «هؤلاء هم رعاع الشعب!»، ولا عجب فقبله ألّف أحد المحكومين بالإعدام في العراق قصيدة شعبية في توديع أسرته، يقول فيها لا تقنطوا ولا تحزنوا «المشنقة أرجوحة الأبطال!» وكذا أصبحت بالنسبة لسعد قزاز، فما زال الناس يتذكرون خطابه. بعد ذلك بفترة وجيزة انقلب الثوار على الثوار مسكوا بالمهداوي وأحالوه لمحكمة وجيزة قررت إعدامه. أطلقوا عليه الرصاص وطرحوه أرضا. راحوا يبصقون عليه ويكيلون على رأسه الرفسات، الشالوتات. (الجلاليق) رآهم صاحبه الثائر الآخر، عبد الكريم قاسم، وقد فقد القدرة على الكلام، ولكن المنظر أطلق لسانه فنادى بهم: لا لا لا لا تضربوه خطية! حرام!».
قال ذلك ولكنه جاء دوره في الحال، مسكوا به وأحالوه لمحكمة أخرى أقل مهانة، وحكموا عليه بالإعدام وأطلقوا الرصاص عليه. لا أحد يعرف أين مثواهما اليوم. ولكن الثورة على الثورة جرّت إلى مذابح شنيعة ضد اليساريين، خسر فيها العراق خير شبابه من المثقفين.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية