"قلبوا علينا المواجع"، بالحديث عن "أعمال السيادة"؛ والمقصود بها جملة القرارات التي تتخذها السلطة وتكون محصنة ضد رقابة القضاء!
فقد كثر الحديث الآن عن "أعمال السيادة"، التي أثارها دفاع الانقلاب في
مصر، أمام محكمة القضاء الإداري في قضية التنازل عن جزيرتي "تيران" و"صنافير" للمملكة العربية السعودية، وهو الدفع الذي لم تأخذ به المحكمة وقررت وقف قرار التنازل، وعودة الجزيرتين للسيادة المصرية من جديد، لكن من وقفوا مع سعودية الجزر، من دوائر السلطة وأذرعها السياسية والإعلامية، أكدوا أن قرار "إعادة ترسيم الحدود" يدخل ضمن "أعمال السيادة"، ورد عليهم الفقيه القانوني والقاضي السابق بمجلس الدولة "طارق البشري" بقول بليغ نصه: "السيادة ليست من أعمال السيادة"!
الدفع بأن قرار التنازل عن الجزيرتين أثير مرة أخرى في الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا، الذي قامت به هيئة قضايا الدولة، ممثلة في من صدر حكم "أول درجة" في مواجهتهم، ومن بينهم وزير الدفاع، الذي فوجئ البعض بوجود اسمه في قائمة الطاعنين القائلين بسعودية "تيران" و"صنافير"، وكان البعض يعول عليه كثيراً في رد المعتدي، لدرجة أنهم طالبوا بالتظاهر في "ميدان التحرير" تأييدا لحكم محكمة القضاء الإداري، برفع صور وزير الدفاع، في إشارة لا تخطئ العين دلالتها. ففي عقيدة الجيش المصري أن الأرض مقدسة، ومن المؤكد – من وجهة نظرهم – أن الجيش يغلي بداخله بما فعله "عبد الفتاح السيسي" وعندما يجد الشعب وقد رفع صورة وزير الدفاع فسوف يتحرك على الفور ليضرب بيد من حديد على يد من فرط وتنازل. "عاطفيون نحن معاشر المصريين، فلدينا مخزون استراتيجي من العواطف الجياشة يكفي العالم أجمع، ويفيض"!
اللافت أن الجميع بدا مسلما بنظرية "أعمال السيادة"، وغاية ما في الأمر أن الجدل أثير بين المؤيدين للحكم القضائي والرافضين له، حول ما إذا كانت عملية التنازل تندرج تحت "أعمال السيادة" أم لا؟ دون أن يكون هذا بداية الوعي بمخاطر هذه النظرية الآن، ودون أن يمثل ما أثير إثارة عندما يكتشف العامة أن هناك من القرارات ما لا يجوز الطعن عليها، وإن فرطت في الأرض، وتنازلت عن السيادة، لصالح دولة أخرى، وهذا ما قلب علينا المواجع!
فلأن الشيء بالشيء يُذكر، فقد ذكرنا هذا بالإعلان الدستوري للرئيس محمد مرسي، الذي حصن فيه قراراته من الطعن عليها أمام القضاء، فاحتشد خصومه بجانب الثورة المضادة، وحاصروا "قصر الحكم"، وأوشكوا أن يمسكوا به، وقالوا إنه يريد أن يجعل من نفسه فرعوناً، واستقال على إثر هذا عدد من مستشاريه، وكان من بينهم من لا نشك في قدره، ولا نستهين بمقامه.
ورغم أني كنت من معارضي الرجل، فقد وقفت مدافعا عن هذا "الإعلان الدستوري"، كتابة وقولاً، ومما قلته، إن الرئيس عندما يحصن قراراته فإن ما يفعله هو تحصيل حاصل، فكل الرؤساء السابقين له قراراتهم محصنة، وذلك وفقاً لما يعرف بنظرية السيادة، وكنت أعرف عنها عناوين من خلال متابعتي لأحكام القضاء المصري، بحكم العمل وبحكم الاهتمام، قبل أن أتعمق في دراسة هذه النظرية فيما بعد، وأتمكن من حيازة كل الأحكام القضائية بشأنها الصادرة من محكمتي النقض والإدارية العليا!
كنت أعتقد أن تطبيق "نظرية أعمال السيادة" بدأ في عهد عبد الناصر، الذي كان يريد الإفلات بثورته العسكرية من رقابة القضاء المصري الذي كان جسمه العام ليبرالياً، فصنع ناصر قضاء موازياً، وعرفت مصر في عهده "اللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي" وتحصين قراراتها من الطعن عليها، قبل أن يتطاول عليها القضاء بعد ذلك، فتصدر الأحكام بعد وفاة عبد الناصر بإلغاء تحصين أي قرار إداري من رقابة القضاء، والحكم بأن هذه اللجان تصدر قرارات إدارية، يختص القضاء الإداري بنظر الطعن فيها، وتطور الأمر حتى تم النص في "دستور مرسي" و"دستور الانقلاب" بعد ذلك، بعدم تحصين أي قرار إداري من رقابة القضاء، لكن غير المهتمين بالقانون لم ينتبهوا إلى أن هذا النص، لا يلغي التحصين في قرارات الحكومة، في ما يمثل سلطة حكم، لأنها ليست من القرارات الإدارية، وإنما هي من "أعمال السيادة"!
بعد دراسة مستفيضة، توصلت إلى أن نظرية "أعمال السيادة" لم تعرفها مصر فقط بعد حركة ضباط الجيش في سنة 1952، وبواسطة رئيس القضاء الإداري الفقيه الدستوري "عبد الرازق السنهوري"، وفي شهر العسل بينه وبين عبد الناصر، وقبل أن ينتهي ويتم ضربه من قبل الغوغاء في مكتبه بالأحذية لمعارضته لقرارات عبد الناصر، عندما استشعر أنه يؤسس لحكم عضوض!
فالشاهد أن "أعمال السيادة" تسربت للقانون المصري مبكراً؛ فقد ورد النص على أعمال السيادة لأول مرة في المادة (11) من لائحة ترتيب المحاكمة المختلطة عند تعديلها سنة 1900، كما نصت عليها المادة (15) من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية عند تعديلها في سنة 1937، وانتقلت هذه النصوص لقوانين السلطة القضائية، وقوانين مجلس الدولة المتعاقبة وإلى الآن!
بدا صوتي نشازا في فتنة الإعلان الدستوري، فحتى الذين يعرفون نظرية "أعمال السيادة" بحكم التخصص كما يعرفون أبناءهم، لم يتحدثوا فيها، ليصبح التحصين الذي نص عليه "الإعلان الدستوري" شيئاً إدا، وغير مسبوق، بما يكرس للدعاية التي انتشرت من أن الدكتور محمد مرسي يؤسس به لفرعونية جديدة، فلو تم ذكر هذه النظرية لأصبح الأمر حمال أوجه، ولأصبح ما حدث هو وجهة نظر، يجوز النقاش حولها، لأن النقاش الجاد بهذا الشكل، سيزعزع يقين العوام، وقد بدت "الهوجة المفتعلة"، أنها تتعامل مع "الإعلان الدستوري" على أنه هدية أرسلها الحكم لخصومه فينبغي أن يعضوا عليها بالنواجذ من أجل إسقاطه. وأن النقاش سيعرف هؤلاء العامة أن هذه النظرية مأخوذة من مجلس الدولة الفرنسي ولا يزال معمولا بها إلى الآن، فهل يملكون المزايدة على الديمقراطية الفرنسية، وفرنسا في وجدان المصريين هي "بلد النور"؟!
الغرض كان هو ما يحرك القوم، والدليل أن "ميدان التحرير"، ومحيط القصر الجمهوري احتشد فيهما قساوسة ورهبان، فهل أزعج الآباء الرهبان حقاً عودة الدولة الفرعونية فأخرجتهم من سكينتهم وعادوا من حياتهم الأخرى إلى الدنيا المليئة بالآثام لمواجهة عودتها؟!
لم أكن منحازاً بطبيعة الحال لنظرية "أعمال السيادة"، ولفكرة تحصين أي قرار من رقابة القضاء، لكني كنت أرى أن الأمر فيه كلام، وأخذ ورد، ووجهة نظر قد تحتمل الخطأ والصواب، وأنه وبالإعلان الدستوري وبدونه فما يريد الرئيس محمد مرسي تحصينه هو محصن بالفعل، والإعلان هو في الواقع كاشف عن هذا التحصين وليس منشئاً له!
وتكمن المشكلة في أن جبهة الرئيس محمد مرسي وقد تصدعت، لم تجد في الجزء المتماسك فيها من يدافع عن هذا "الإعلان" الذي تم إلغاؤه في وقت لاحق، وتكمن الأزمة في طريقة الإخراج، فقد كان بإمكان الرئاسة أن تناقش رجالها والمنحازين لها في الأمر، ولا تصدره من وراء ظهورهم فيبدون "طراطير في الزفة"، فليس منطقاً ألا يعلم بالإعلان الدستوري قبل إقراره مستشارون للرئيس بحجم الدكتور "سيف الدين عبد الفتاح"، أو وزراء معنيون مثل وزير العدل المستشار "أحمد مكي"، فبدا إقراره في السر كما لو كان خطيئة تسعى الرئاسة أن تسترها بطرف ثيابها!
وكان مما يمكن أن يقال لإقناع رجال الرئيس وقلته أنا بعد أن وقعت "الفأس في الرأس"، إن الإعلان استهدف حماية منصب الرئاسة من الانقلاب عليه بحكم قضائي، لا يتسق مع القانون، وإنما بدوافع الثورة المضادة، وقد ثبت بالفعل في وقت لاحق أن القضاء المتحفز في جانب كبير منه ضد الثورة، وفي جانب أكبر ضد الرئيس المنتخب، يمكن أن يتجاوز كل القوانين من أجل إسقاطه ورأينا ذلك في وقت لاحق عندما تجاوز رئيس محكمة جنح الإسماعيلية اختصاصه واتهم الرئيس في قضية فتح السجون، وهي القضية التي جرى ضبطها بعد ذلك ليحاكم بها بعد عزله واختطافه، وليوجه له الاتهام بالتخابر مع حركة حماس في أيام ثورة يناير!
ولولا حصار الشيخ حازم أبو إسماعيل ورجاله للمحكمة الدستورية العليا، ما أفزع قضاتها، لكانت هذه المحكمة نظرت في إحدى الدعاوى المعروضة عليها حول شرعية الرئيس وقضت بقبولها وحكمت بعزله، مع أن هذه الدعاوى كانت مرفوعة من آحاد الناس وبغير الطريق الذي رسمه القانون، لكن هذه المحكمة أحكامها نهائية وباتة وواجبة التنفيذ، ولا توجد درجة تقاضي أخرى يمكن اللجوء إليها للقول بمخالفة الحكم القانون، وعندئذ لم يكن بإمكاننا أن نقول إن ما حدث انقلاب عسكري، ولكنها "دولة القانون"!
وقد استخدم القضاء في تعويق المسار الديمقراطي، فكانت ثالثة الأثافي عندما اتخذ الرئيس قراره بدعوة الناخبين للانتخابات البرلمانية، ولأن الانقلاب كان يُجهز له، ولا يراد للحكم المنتخب أن يرتب بإجراء الانتخابات وضعاً جديداً يتعذر تداركه، فكان أن قضت الدائرة الأولى بالقضاء الإداري بإلغاء قرار الرئيس، ومن أصدر الحكم هو نفسه القاضي الذي أصدر حكم "تيران" و"صنافير" المستشار يحيى دكروري، والذي توجد له صورة على مواقع التواصل الاجتماعي مع أسرته في ميدان التحرير، في يوم 30 يونيه 2013، وفي مظاهرات مثلت غطاء ثورياً للثورة المضادة والانقلاب العسكري!
وقالت المحكمة إن قرار الرئيس ليس من "أعمال السيادة"، وذلك بالمخالفة لأحكام سابقة اعتبرت قرارات مشابهة لمبارك من "أعمال السيادة".. بل أي دارس لهذه النظرية وتطبيقاتها، سينتهي إلى أن الإجماع منعقد والأحكام متواترة على أن كل قرارات رئيس الدولة المتعلقة بالانتخابات تندرج ضمن هذه الأعمال!
فإذا كان القانون لم يحدد ما هي "أعمال السيادة" على سبيل الحصر، فإن الدعوة للانتخابات هي من أعمال السيادة بالإجماع، ومما قررته المحكمة الإدارية العليا أن من المسلم به أن "للمحاكم سلطة تقرير الوصف القانوني للعمل المطروح عليها وما إذا كان يعد عملاً إداريا عادياً أم عملاً من أعمال السيادة.... فالمشرع أطلق العبارة الأخيرة بدون تعريف أو تحديد، وخول القاضي سلطة تقدير بعض أعمال السلطة التنفيذية، وترك حرية وصفها وتكييفها بما يترتب عليه تقرير اختصاصه أو عدم اختصاصه بنظرها".
نظرية "أعمال السيادة"، تقوم على تقسيم أعمال جهة الإدارة إلى قسمين: أولهما، الأعمال التي تمارسها كسلطة حكم؛ وثانيهما، الأعمال التي تمارسها كسلطة إدارة. والقسم الأول هو الذي له صلة بنظام الحكم أو البرلمان، أو الموازنة، أو الشؤون العسكرية، أو العلاقات الخارجية، فهي من قبيل أعمال السيادة التي لا مجال لإعمال رقابة القضاء عليها.
وهناك خطأ مستقر، يتمثل في الاعتقاد بأن سلطة الحكم يمارسها رئيس الدولة فقط، وظهر هذا جلياً في حكم أول درجة للقضاء الإداري، عندما جاء في حيثيات الحكم أن "عقود التنازل" لم يوقعها "عبد الفتاح السيسي" إنما وقعها رئيس الحكومة، فلا تندرج بالتالي تحت "أعمال السيادة" بهذا التوقيع، وذلك بالمخالفة للمستقر عليه قانوناً من أن سلطة الحكم تمارسها "جهة الإدارة" و"الحكومة" بدون تحديد!
وتجدر الإشارة هنا أن نظرية "أعمال السيادة" في النشأة والتكوين، تدخل ضمن أحكام الملائمة السياسية، بعيدة عن فكرة تطبيق القانون وإحقاق الحق، فمجلس الدولة الفرنسي اعتمدها لينجو بنفسه من تربص "الثورة المضادة"، فنشأته كانت على يد نابليون بونابرت عقب الثورة الفرنسية، وعندما هزمت هذه الثورة وعادت الملكية، وكانت تنظر لمجلس الدولة على أنه من ثمار الثورة ومن انجازات نابليون، وانتشرت دعوة تطالب بإلغائه، فقد حرص مجلس الدولة على عدم الصدام مع السلطة القائمة من خلال إقرار هذه النظرية، التي تمنعه من رقابة قراراتها، ومن هناك انتقلت إلينا في مصر!
وقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات مطالبة بإلغائها، وإن استمر العمل بها في فرنسا، فهناك توجد الرقابة المتعددة ومنها رقابة الجماهير، التي يمكن أن تحاسب الحكومة وتسقطها في أقرب انتخابات، إن ارتكبت جريمة محصنة، أما في مصر فيبدو القضاء هو حائط الصد الأول والأخير، لاسيما وأننا نواجه سلطة تقوم بأعمال تدخل في حيز الخيانة الوطنية، كما جرى بالتوقيع على اتفاقية المبادئ على بناء سد النهضة دون الحصول على ضمان بحصة مصر التاريخية من ماء النيل!
ويظل الحديث عن أن "السيادة ليست من أعمال السيادة" مجرد اجتهاد وطني وقانوني، لكنه يظل مع وجاهته اجتهاداً، يواجه باجتهادات أخرى، ولأن الأمر ليس محدداً قانوناً، فلا يوجد مانع من أن يحكم قاضي بغض النظر عن دوافعه بأن "الحرام الوطني" هو من "أعمال السيادة"، لأنه الحكومة تمارسه كسلطة كحكم!
ورغم هذا "الحرام الوطني"، فقد بدا هناك اتفاق بين جميع الأطراف بأنه لو من "أعمال السيادة" فلا يوجد ما يمنع من حكم القضاء بتركه يفلت دون رقابة، وكأن هذه النظرية وردت في "الكتب المقدسة"، فلا يجوز طلب نسفها وإلغائها!
ما دام السيسي هو من يحكم، فإن نظرية "أعمال السيادة" سوف تستخدم لبيع الوطن بالجملة والتجزئة.. وبالقانون!