الماسط عند أهل
تونس طعام لا يغري بالأكل أو شراب لا يستسيغه الشارب أو شخص لا تستحب صحبته أو نكتة لا تضحك. في تونس هذه الأيام ماسطة والحديث فيها ماسط وهذا العيد يهل ماسطا لا يغري بحلواه وربما انصرف الناس عنه سريعا لكي ينسوه بالبحر والسهر والكسل المنظم في مهرجانات ماسطة فلا شيء يستحق العناء. روح استسلامية تسري في عروق أهل تونس فتجعل أيامهم ماسطة كوجبة سجن.
الشعور بأن المنظومة القديمة عادت للسيطرة والتحكم أثبط عزائم كثيرة. وفرقة الطبقة السياسية المعارضة سابقا حول سبل دفع عملية التغيير الايجابي إلى مداه أجهز على بقايا الأمل في النخبة القائدة، وضاعف بالتالي من الإحساس بالعار والهزيمة أمام منظومة مفسدة عرفت كيف تنحني للعاصفة ثم تعود بحيل اللصوص. لم يعد بإمكان كتاب الأمل أن يركبوا جملا حماسية لجمهور يفقد روحه ولا ينشغل بالأمل.
الحكومة الماسطة
قبل رمضان لم يكن الوضع محتاجا لتغيير الحكومة. كان الجميع يطالب بتوضيح برنامج عمل الحكومة القائمة. فقد حققت نتائج طيبة في ما كان مهمة عسيرة (مقاومة الإرهاب) خاصة باستبعاد وزير داخلية عاجز أو متواطئ وإسكات نقابات أمنية منفلتة. كانت تسرب أسرار العمليات القتالية في التلفزة. فجأة طلب رئيس الدولة حكومة جديدة. ومر الشهر ولم تتشكل ويبدو أن الرئيس لحس الأجل المضروب يوم 29 يونيه كآخر أجل لإعلانها.
الإعلان عنها والعجز دونها بعد شهر كامل أفقد العملية/الحكومة طعمها وانتهى التشويق ولكن انكشف للتونسيين الكثير مما كانوا أملوا نسيانه فأحبطوا بعودته كأنه قدر مقدور..
الرئيس خضع في طلبه وفي عجزه لأسرته. ابن الرئيس يشكل مجموعة ضغط داخل ما تبقى من حزب النداء ويريد فرض حكومة موالية له. يختار رئيسها ووزراءها ويأمرها فتطيع. والأب عاجز أو متواطئ وشكل الأسرة المتنفذة بالسياسة يبرز للعيان. وهذا الوضع في تونس يعيد إلى الأذهان صورة بن علي وأصهاره وأسرته الذين استولوا على الدولة. نحن هنا بعيدون عن آل كينيدي وآل كلينتون (كأسر سياسية مشهورة) فابن الرئيس المتنفذ لا يتقن تركيب جملة مفيدة. لكننا أمام مثال أسرة بن علي أو مبارك أو القذافي جديدة. أسرة فاسدة تفسد بلدا.
في مواجهة نوايا الأسرة لم يكن الحريصون على سلامة البلد والمرحلة أكثر وطنية من لوبي الفساد الذي يقوده ابن الرئيس. ومن أجله يريد القفز على الدستور ومبادئ العدالة الانتقالية التي أسسها ويسير فيها الجميع بصبر وأناة.
في المقابل كيف يعيش الشارع الفرحة بعيد عادي جدا وممل؟!
شارع تائه ونخبة جشعة
شارع الملابس القديمة يتجدد وينتعش في العيد. إنه الملاذ الأخير ليس لطبقة المفقرين التي اعتادته بل لطبقة كانت وسطى ثم انحدرت مقدراتها بشكل كارثي. الأسرة التونسية تقسط فرحها بالعيد ولا تجد له حلاوة. يوجد زحام أمام محلات الحلويات الراقية في الأحياء الراقية لكن الفقراء والمفقرين يؤجلون الفرح في انتظار فرج ما. الانقسام الاجتماعي يزداد حدة. وهذا يغذي إحساسا بالخوف عند القلة المرفهة ويغذي إحساسا بالقهر عند البقية. التجانس الاجتماعي في أدنى درجاته. وهي بوابة للعنف الاجتماعي الذي يُصَرَّف الآن هجرة سرية وتجارة موازية لا تسمن ولا تغني من جوع إلا للمهربين الكبار الذين شكلوا طبقة خاصة من بوابة فساد الجمارك (الديوانة).
الوضع السياسي العام آخذ في التحلل والتفكك. لكن الطبقة السياسية (المخولة نظريا بالتحرك والحكم) هي آخر من سيجد إجابة عن هذا السؤال المشروع. الوضع السوداوي الماثل للعيان صنعته هذه النخبة ولا يمكنها بالتالي أن تعالجه. إنها تتحول إلى مشكل في ذاتها وعقبة لكل حل منطقي. والصراع على الحكومة الذي يتابعه التونسيون كمسلسل تافه يكشف المزيد من الانهيار الأخلاقي للطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة. إنها لا تريد إلاّ أن تحكم من عل. وكل الحيل في ذلك جائزة، بما في ذلك دفع البلد إلى انهيار اقتصادي واجتماعي. لكن لعل في ذلك خيرا ولعلها الضارة النافعة.
المنظومة تخوض آخر معاركها
انكسر حزب النداء وتشتت شمله إلا من عصابة حول ابن الرئيس تعرف يقينا أن حظوظها في الحياة السياسية مرتبطة بنصرته وأبيه في هذه المرحلة. عجز الدساترة أو فلول التجمع الجهوية عن التآلف في كتلة سياسية ذات ملمح قابل للقراءة. ويبدو أنهم لن يستبقوا البلديات لعام 2017. وضعت النقابة نفسها في موضع لا تحسد عليه عند التونسيين خاصة بعد إضراب البريد الوحشي في مواعيد صرف المعاشات. كثير من التونسيين يرى النقابة سبب الخراب الرئيسي بمطالبها المجحفة في غير أوانها بما قد يكشف جانبا مضيئا في الصورة القاتمة.
المنظومة تفككت وتتلاشى والوعي بعارها وعجزها يتسع. لكن لا يجب الإفراط في التفاؤل فالوضع يفتح على احتمالات فوضى عارمة، ذلك لأن الشارع الذي يفترض أن يكون منظما لتلقف البلد بعد انهيار وشيك لم يحزم أمره. وأنى له وهو مشتت بين حزيبات تبث فيه فرقة مميتة لصناعة زعامات بلا مشروع ولا تختلف في جوهر فعلها عما تفعله عصابات النداء المتناحرة. لذلك كلما فرح المرء برؤية المنظومة القديمة تعجز وتتفكك رأى في الجانب الآخر شارعا مشتتا وعاجزا ومتناحرا.
وعليه نختصر بألم إذا كانت المنظومة تخوض آخر معاركها فإن الشارع (الذي يفترض أن يكون منتميا للثورة ومطالبها ويحمل شعاراتها) لم يتهيأ لأول معاركه. وعند احتمال الانهيار الماثل ستكون الفوضى سيدة المكان والتاريخ.
هل يتواضع التونسيون لحكومة حد أدنى؟
في هذه الساحة المخترقة بالزعامات القميئة المحتربة على المواقع والمغانم، لا يملك التونسيون إلا الرضا بحكومة الحد الأدنى القائمة أو المعدلة، حكومة تكون مهمتها الحفاظ على الوضع القائم (حكومة صرف رواتب). إنها ليست مطمحهم ولكن وعيهم القاصر بلحظة الثورة أوصلهم إلى هذه النقطة (الاختيار بين الجمود والفوضى). لقد ضيقوا على أنفسهم فوجدوا أنفسهم بين الحفاظ على الجهاز (شقف السفينة) وبين التغيير الحقيقي المكلف. وقفوا أمام كدس ملابس سياسية قديمة وعليهم أن يختاروا كسوة سياسية متآكلة لأنهم يخجلون أن يخرجوا عراة للتاريخ يضربون من أجل مستقبل أبناء لا يلتجئون إلى الملابس القديمة ليستروا عوراتهم. حتى الآن ليس أمامهم إلا الماسط والماسط في لسان العرب نبت مالح تأكله الإبل فيصيبها بالإسهال. والإسهال يؤدي إلى الهزال.
هنيئا لأطفال تونس بالعيد قبل أن يطلعوا على عورات الأجيال التي سبقتهم وقد أصابهم هزال الدهر.