نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تحقيقا مفصلا، حول العلاقة بين مراكز الأبحاث "ثينك تانكس" وجماعات الضغط، مشيرة إلى عدم وضوح الخط الفاصل بين هذه الجماعات والمراكز
البحثية.
وحصلت الصحيفة على آلاف المراسلات والوثائق بين "لينار كووبريشن"، وهي أكبر شركة لبناء البيوت في سان فرنسيسكو، وبنك "جي بي مورغان تشيس"، وأكبر شركة تمويل أمريكية "كي كي آر"، و"مايكروسوفت"، والشركة اليابانية "
هيتاشي"، تبين أن الدعم المالي يأتي عادة بتأكيدات من معهد "
بروكينغز"، وأنه سيقدم "منافع للتبرع"، من خلال تنظيم مناسبات، يتحدث فيها مديرو الشركات إلى جانب مسؤولي الحكومة.
وتكشف الوثائق، التي حصلت عليها الصحيفة مع "مركز نيو إنغلاند للتحقيق الصحافي"، عن غياب الخط الفاصل بين الباحثين وجماعات الضغط، والقيام بعمليات ضغط نيابة عن شركات كبرى، أو دول أجنبية، مشيرة إلى أن الترتيبات ذاتها موجودة لدى عدد من
مراكز البحث، التي عادة ما تقدم نفسها على أنها جامعات دون طلاب.
وتقول الصحيفة إنه "في قضايا متنوعة، من بيع السلاح للدول الأجنبية، والتجارة الدولية، وإدارة الطرق السريعة، إلى مشاريع التطوير السكني، أصبحت (ثينك تانكس) وبشكل متزايد، عربات تستخدمها الشركات في حملات التأثير والترويج".
وينقل التحقيق عن النائبة الديمقراطية عن ماساشوسيتس، والناقدة لعمل هذه المراكز، السيناتور إليزابيث وارن، قولها: "هذا عن الشركات العملاقة التي توصلت إلى طريقة للإنفاق، عشرات الملايين من الدولارات إن اقتضى الأمر، للتأثير في القرارات هنا في واشنطن، وتستطيع الحصول على مليارات الدولارات".
وتشير الصحيفة إلى أن "واشنطن شاهدت انتشارا لمراكز البحث والمعاهد، بعضها ذو أهداف ضيقة، ومرتبط بصناعات محددة، وشهدت الأسماء المعروفة نموا واسعا، فقد تضاعفت ميزانية (بروكينغز) في العقد الماضي إلى 100 مليون دولار، أما مركز البحث (أمريكان إنتربرايز) فينفق 80 مليون دولار على الأقل لبناء مركز جديد له في واشنطن، وليس بعيدا عن برج المركز للدراسات الاستراتيجية والدولية، الذي أنشئ بميزانية 100 مليون دولار".
ويلفت التحقيق إلى أن التحول في عمل هذه المؤسسات أتى من خلال مراكز غير ربحية؛ بسبب الضغط الذي يمارسه المتبرعون عليها للوفاء بأهداف عامة، رغم أن الضغط يهدد مكانتها بصفتها مراكز بحث، يتركز دورها على التوسط في النقاش الدائر في الكونغرس والبيت الأبيض والإعلام.
وتورد الصحيفة نقلا عن المديرة الإدارية لمعهد "بروكينغز" كيمبرلي تشيرتشز، قولها: "أليس من الأفضل العودة إلى الجيل العظيم من المحسنين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانوا يقولون، هذه مليون دولار انفقها كيفما تشاء؟".
لسنا أدوات
وينوه التحقيق إلى أن مديري مراكز البحث يرفضون الاتهام الموجه إليهم بأنهم أدوات تستخدمها الشركات للتأثير، ويقولون إنهم يتعاونون مع المانحين، الذين يدافعون عن الأهداف ذاتها، مثل دعم المدن التي تحتاج إلى التطوير الاقتصادي.
وتنقل الصحيفة عن نائب مدير معهد "بروكينغز" مارتن إنديك، قوله: "لا نتنازل عن كرامتنا"، ويضيف: "نحافظ على قيمنا الرئيسة، ونوعية بحثنا، واستقلالنا، وكذلك تأثيرنا".
ويعلق التحقيق بأن "غالبية الأبحاث التي يصدرها معهد (بروكينغز)، والمناسبات التي ينظمها، لا تشير إلى أثر للمانحين، لكن النفع الذي تحصل عليه الشركات، من خلال التدثر بغطاء البحث العلمي، الذي تقدمه مراكز البحث، واضح في عمل عدد آخر من مراكز البحث، فعندما يقدم باحثون في مراكز البحث شهادات أمام الكونغرس، أو يتحدثون في مناسبات، لا تكون لدى المشاهد العام فكرة عن العلاقة المالية بين الباحثين والشركات الربحية، التي عينتهم مستشارين أو
جماعات ضغط، أو الدعم الذي تقدمه الشركات لمراكز البحث".
وتورد الصحيفة أنه "بحسب مركز (نيو إنغلاند) للتحقيق الصحافي عن عمل مراكز البحث، فإن هناك أدلة على مناقشة بعض مراكز البحث التقارير والوثائق والنتيجة النهائية، أو حتى المتوقع التوصل إليها، وعادة ما يتم مشاركة المتبرع بمسودات البحث، الذي يقوم بتشكيل الرؤية النهائية للتقرير، وتقوم الجهات المانحة بوضع الخطوط العامة للبحث العلمي، وطرق استخدامه، كون ذلك جزءا من جهود الترويج للشركة، كما فعل (بروكينغز) مع مصرف (جي بي مورغان)، الذي يعد من أكبر المانحين للمركز، وتبرع له بقيمة 15.5 مليون دولار".
ويستدرك التحقيق، الذي ترجمته "
عربي21"، بأنه رغم المنافع المالية، إلا أن الشركات يمكنها تقديم الدعم على أنه خيري، وليس خاضعا للضريبة، مشيرا إلى أن خبراء الضريبة يرون في الترتيبات التي تلجأ إليها الشركات الكبرى دعما غير مناسب من دافعي الضريبة، خاصة إن كان الأمر يتعلق بترتيبات معينة.
وتنقل الصحيفة عن المدير التنفيذي لمركز السياسات الدولية في واشنطن بيل غودفيلو، قوله: "أهل مراكز البحث مثل فاعلي الخير، ولا يتنازلون، ولا يمكن شراؤهم مثل البقية في الطبقة السياسية"، ويستدرك قائلا: "لكن من الغريب القول بعدم وجود تأثير للمانحين، والخطورة هي أن عالم مراكز البحث تم إفساده، كالعالم السياسي، وهذا أمر مثير لقلق الجميع".
وتكشف "نيويورك تايمز" عن أن مجموعة من الديمقراطيين، ممن يتولون مناصب نيابة عامة، تقوم بالتحقيق فيما إذا تعاونت شركة "إكسون موبيل" مع مراكز بحث في العقود الماضية، من أجل التغطية على أثر التنقيب عن الزيت الصخري وعلاقته بالبيئة، من خلال إعداد تقارير علمية، تدحض نظريات علمية لا توافق عليها الشركة.
علمية ونوعية
ويورد التحقيق نقلا عن مديري معاهد، مثل "بروكينغز" ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وغيرهما من مراكز البحث، قولهم إن لديهم نظاما يؤكد البعد العلمي والأكاديمي للأبحاث الصادرة عنها، حيث قال المدير التنفيذي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية جون هامر: "نؤمن بقوة قدرة نموذجنا على البحث عن حلول لمشكلات بلدنا المعقدة".
وتستدرك الصحيفة بأنه رغم ذلك، فإن الباحثين في مراكز البحث يرون تأثير الشركات بوضوح، وتقول الزميلة البارزة في معهد "ستمسون" في واشنطن راشيل ستول، إن شركة مانحة حققت معها عندما حاولت الحصول على دعم مالي لبحث حول الاستخدام العسكري للطائرات دون طيار، وسألتها الشركة عما إذا كانت ستكتب عن الطائرات دون طيار أنها سيئة، وقالت لها: "نحن لسنا معنيين بتمويل من يعدون الطائرات دون طيار شيئا سيئا" .
ويظهر التحقيق أن المعلومات السرية المتوفرة عن مفاوضات معهد "بروكينغز" تحتوي على مناقشات، ورسائل إلكترونية، ومذكرات عن لقاءات، واستشارات، تؤكد المعلومات الموجودة في الملفات التي يحتفظ بها المعهد عن المانحين والمنافع التي ستقدمها لهم، مشيرا إلى أن الملفات تحتوي على الأولويات التي تركز عليها الشركات، وقائمة بالتبرعات.
وتكشف الصحيفة عن أنه عندما أرادت شركة "جنرال إلكتريك" تمويل شبكة من السكك الحديدية وبرامج للطاقة النظيفة، وفّر "بروكينغز" الفرصة لمديريها للظهور إلى جانب مسؤولين في البيت الأبيض والكونغرس، في فعاليات ركزت على هذه الصناعات، لافتة إلى أنه عندما قرر بنك "كي كي آر" إطلاق صندوق تمويل خاص عام 2010 للاستثمار في العقارات والبنية التحتية، تبرع بمبلغ 450 ألف دولار لـ"بروكينغز"؛ وذلك من أجل ترتيب المعهد لقاءات مع قادة في فيلادلفيا وديترويت، حيث كانت الشركة تخطط للقيام بمشاريع إسكان، وقام المعهد بإصدار تقرير وضعته الشركة على موقعها للترويج لأحد مشاريع الشركة في نيوجرسي.
وبحسب التحقيق، فإن الوثائق تكشف حجم التبرعات التي قدمتها الشركة للمعهد منذ عام 2014، والمناسبات التي نظمها المركز للمسؤولين فيها، مثل المدير المشارك فيها هنري كرافيز، الذي تبرع بمبلغ 75 ألف دولار، كما تظهر قائمة التبرعات التفريق، الذي يقوم به المركز بين التبرعات "غير المقيدة"، التي يمكن للمعهد إنفاقها في أي مجال، وتلك "المحددة" في مشروع معين يهم المتبرع.
وتشير الصحيفة إلى المشروع المشترك بين شركة "لينر" والمعهد، حيث كانت الأولى تخطط للقيام بمشروع تطوير في مركز لبناء السفن في سان فرنسيسكو، رغم المعارضة الشديدة له، وقال نائب مدير المركز إنديك في الدفاع عن التعاون مع شركة "لينر"، إنه جاء بسبب التشارك في الأهداف التي تعمل على إعادة أعمار المدن.
هيتاشي
ويفيد التحقيق بأن شركة "هيتاشي" كانت واحدة من المتبرعين الكبار، حيث قدمت لـ"بروكينغز" 1.8 مليون دولار خلال العقد الماضي، وقام المعهد بمراجعة استراتيجية البيع والتسويق للشركة الموجهة نحو الولايات المتحدة، ونظم المركز مناسبات شاركت فيها شخصيات بارزة من إدارة أوباما، وسمحت لمسؤولي "هيتاشي" بالترويج لمنتجاتهم.
وتذكر الصحيفة أن المسؤولين في المعهد يدافعون عن موقفهم، ويقولون إنهم لم يقوموا بعمليات ضغط نيابة عن "هيتاشي"، وقدموا تقارير توضح موقفهم الذي يتحدى وضع الشركة، حيث قالت تشيرتشز: "مساعدة شركة لتحقيق أجندة ربحية ليست بأي حال على جدول أعمالنا".
ويبين التحقيق أن المجلس الأطلسي، الذي يركز على قضايا العلاقات الخارجية، تعاون مع "فيديكس"، وزادت ميزانية المجلس من مليوني دولار إلى 21 مليون دولار خلال العقد الماضي، لافتا إلى أن التعاون جاء من أجل بناء دعم لمشروع التجارة الحرة، التي أملت الشركة بأن تزيد نشاطها التجاري من خلاله.
وتكشف الصحيفة عن أنه قبل ستة أشهر من صدور تقرير المجلس، فإنه خطط مع "فيديكس" لاستخدامه وسيلة للضغط، حيث جاء في المسودة، التي كانت من صفحتين، قبل أشهر من صدور التقرير أن "تأثير التقرير سيضخم من خلال مناسبة كبيرة"، وهي "حفلة نشر عامة للتقرير، يحضرها أعضاء في الكونغرس من اللجان ذات الصلة"، منوهة إلى أنه عندما صدر التقرير في نهاية عام 2014، عكست نتيجته ما كانت تطالب به "فيديكس"، وهو تخفيف التعرفة للتجارة عبر الأطلسي، والسماح بالشحن المجاني.
ويذكر التحقيق أن نائب رئيس شركة "فيديكس" راج سوبرمانيامان حضر مناسبة صدور التقرير، إلى جانب أحد الداعمين البارزين، وهو النائب الجمهوري عن مينوسيتا إريك بولسن، وتحدث سوبرمانيامان قائلا: "هذا أمر رائع، وفرصة التقدم كبيرة"، في حين قال مدير المجلس الأطلسي إن "فيديكس" تبرعت بمبلغ 20 ألف دولار، مشيرا إلى أن الفريق العامل في المجلس قام بالبحث.
طائرات دون طيار
وتقول الصحيفة إن شركة "جنرال أتوميكس"، ومقرها كاليفورنيا، والمتخصصة بصناعة الطائرات دون طيار، تعاني من مشكلة تراجع في مبيعاتها، خاصة أن حربي العراق وأفغانستان تراجعت أهميتهما، ولهذا كانت الشركة تدفع باتجاه تغيير سياسة إدارة باراك أوباما، بفتح الباب أمامها لبيع الطائرات لدول أخرى.
ويورد التحقيق نقلا عن مدير نظام الطائرات في الشركة فرانك بيس، قوله في تصريحات نقلتها وكالة "رويترز" أثناء مشاركته في معرض الطيران في دبي: "عندما تهبط الميزانيات في الولايات المتحدة نأمل بأن نكون قادرين على تصدير المزيد"، وفي ذلك الوقت طلبت الشركة من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية المساعدة، وقدمت له المال ليعد دراسة عن سياسة الطائرات دون طيار، لافتا إلى أن مساهمة "جنرال أتوميكس" لم تكن كبيرة للمركز، مقارنة مع تبرعات شركات تصنيع سلاح عملاقة، مثل "لوكهيد مارتن" و"بوينغ"، اللتين تبرعتا منذ عام 2010 بحوالي 77 مليون دولار لعدد من مراكز البحث.
وتلفت الصحيفة إلى أن المركز قام بتنظيم لقاء تشاوري في مقره بين ممثلين عن الشركة، دعا إليه مسؤولون من البحرية، وسلاح الجو، والمارينز، وخفر السواحل، ووزارة الخارجية، ومكتب وزير الدفاع، وكتب أحد كبار الباحثين في المركز، وهو صمويل برانين، إلى آرون جوست، وهو أحد مسؤولي وزارة الخارجية، المسؤول عن تصدير طائرات
الدرون، قائلا: "ستكون سلسلة اللقاءات متميزة وواسعة؛ لأنها تجمع بين الأطراف المعنية".
ويذكر التحقيق أن المركز دعا أيضا ممثلين عن "لوكهيد مارتن" و"بوينغ"، اللتين تبرعتا للمركز، مشيرا إلى أن نتيجة النقاشات جاءت في تقرير نشر في شباط/ فبراير 2014، حيث كتب رئيس فريق البحث برانين إلى نائب مساعد وزير الخارجية للتحكم بتجارة السلاح كينيث هاندلمان، قائلا: "خرجت بنتيجة تدعم وبقوة تصدير السلاح".
وتختم "نيويورك تايمز" تحقيقها بالإشارة إلى أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل إن المركز عقد اجتماعات مع مسؤولين في وزارة الدفاع، ومن الكونغرس؛ للدفع باتجاه تطبيق التوصيات التي جاءت في البحث.