قبل أيام من عيد الأضحى، قرأت على صفحة إحدى الأخوات في الفيسبوك دعاءها إلى ربها بأن يعيد زوجها سالمًا من المقابلة التي استدعته إليها مخابرات الاحتلال.
ولغير العالمين بأحوال هذا الصنف من النّاس، قد يبدو دعاء الأخت، وما يكشف عنه من قلق، غريبًا، فما يُعرَف بـ "التبليغ" أمر معتاد لدى
الفلسطينيين، الذين يتوجه العشرات منهم يوميًّا إلى معسكرات الاحتلال، لمقابلة ضباط "الشاباك" الذين يرسلون لهم تلك "التباليغ" أو "الاستدعاءات".
لكن الفلسطينيين ليسوا سواء في هذا، رغم أنهم كلهم يعانون قهر الاحتلال، فالحواجز التي تفصل بين المدن الفلسطينية، مفروضة على كل الفلسطينيين، ولكن بعضهم يعاني أكثر من غيره عليها، وإذا كان الاحتلال يسمح للفلسطينيين إذا تجاوزوا سنًّا معينة بالذهاب إلى القدس دون "تصريح"، فإن بعض كبار السنّ يُمنعون من ذلك أبدًا، مهما بلغت أعمارهم، كما أن هذه "التصاريح" لا يمكن للعديد من الفلسطينيين أن يحلموا بها.
وإذا كان يمكن لبعض الفلسطينيين أن يسافروا إلى الأردن ثم يعودوا منه يوميًّا، فإن منهم من هو ممنوع من السفر منذ سنوات طويلة، حتى من أداء العمرة أو الحج، أو السفر لأجل إكمال تعليمه، ومنهم من يقضي عمره في السجون، مع أنه من غير أصحاب المحكوميات العالية، ومن غير أصحاب المؤبّدات، ما إن يخرج من السجن حتى يعود إليه، لا يلبث بين أهله سوى شهور قليلة، أو أيام قليلة، وأعرف من الناس من يلبث بين أهله أيامًا معدودة على أصابع اليد الواحدة.
هؤلاء الذين يخرجون لأيام قليلة ثم يعودون إلى السجن، كنّا نتندّر في أسى على حالهم؛ إنهم وبدلاً من أن يزورهم أهلهم إلى داخل السجن، يزورون هم أهلهم بين العام والآخر، ولا تعجب، فإن هذا النمط من التمييز يمارسه الاحتلال على المعتقلين أيضًا الذين يتشاركون في أصل الاعتقال، فهناك من هو ممنوع من الزيارة، فلا يزوره أهله إلا نادرًا، ومنهم من يُمنع بعض أهله من زيارته أبدًا ما دام في السجن، ومنهم من يُعزل وحيدًا سنوات طويلة، ومنهم من يحرم من الاستقرار داخل السجن.
لا يعرف بعضُ المعتقلين الاستقرار في السجن، دون غيرهم من رفاق الأسر، ويقضون سنوات (حرفيًّا) من أعمارهم داخل سيارة "البوسطة"، وهي قطعة من العذاب، كل وصف لها ينتقص من حقيقة العذاب الذي فيها، ثم يقضون سنوات أخرى من أعمارهم، فيما يُسمى "المعبار"، وهو محطة يقضي فيها المعتقل ليلة، أو ليالي، ما بين المعتقل والآخر، وهو قطعة أخرى من العذاب، وهكذا..
وقد تكون هذه النقليات ما بين السجن والمحاكم، أو ما بين السجون نفسها، ويمكنك أن تتخيل أسيرًا محكومًا بعدد من المؤبّدات، وقد مرّت عليه السنوات في السجن، وهو محروم من الاستقرار، لا يكاد يُخرج ثيابه من حقيبته، حتى يَفرض عليه السجان نقلاً إلى سجن آخر، وهكذا..
ويتسلّط الاحتلال داخل السجن بالعقاب المضاعف على تنظيمات أكثر من أخرى، فأثناء كتابة هذه المقالة يوم
العيد، أفادت الأخبار بأن السجّان قد منع أسرى حركتي حماس والجهاد الإسلامي من أداء صلاة العيد، وتجد أسرى هاتين الحركتين تحديدًا الأكثر حرمانًا في كل شيء، في زيارات الأهل، في "الكانتينا"، في "الفورة"، في "قمع الأقسام".. الخ..
نعم، كل الفلسطينيين يعانون أذى الاحتلال، ولكن بعضهم أكثر معاناة، وهذا البعض يظلّ مَلفًا مفتوحًا، حتى وإن مرّ عليه وقت خارج المعتقل، تبقى أحاسيسه تجاه إجراءات الاحتلال مختلفة، لأن تجربته أكثر مرارة، فإذا طرق جنود الاحتلال باب بيته ليلاً استنفر أهل البيت، لأن الاعتقال يظلّ احتمالاً قائمًا، وإذا استدعي لمقابلة ضباط "الشاباك"، يسكن البيت القلق والانتظار والترقب، لأن احتمال البقاء في السجن يظل قائمًا..
بعد ذلك، لا يمكنك أن تعجب حينما تعلم أن زوجة، أو أمًّا، أو أبًا، أو ابنًا، أو بنتًا.. الخ، قد استبدّ بهم القلق، حينما يستدعى ابنهم للمقابلة، بل إن القلق يصاحبهم في أبسط اختياراتهم في الحياة، لأن بيته معرض للاقتحام في أي لحظة، وأغراضه معرّضة للمصادرة في أي لحظة، بل إن تجارتهم، أموالهم، سياراتهم، معرّضة للمصادرة!
هذا العقاب التمييزي، الذي يفرضه الاحتلال على أفراد معينين بسبب تاريخهم في الانتماء لفصائل المقاومة، يفرضه الاحتلال على نحو أوسع، فقد يهدم بيوت أهاليهم، ويمنع أهاليهم من التصاريح أو السفر أو زيارة أبنائهم في السجون، وقد يعاقب مناطق كاملة دون غيرها، إذا خرج منها عمل مقاوم، ويخلق نمطًا من المقابلة ما بين المنطقة المعاقَبة، والمنطقة المعفاة من العقاب.
هؤلاء الأفراد الذين يخصّهم الاحتلال بالمبالغة في العقاب بما يفوق بقية أبناء شعب، أو بأصناف خاصة من العقاب، هم غالبًا من أبناء الفصائل، وتحديدًا من فصائل المقاومة، يعمل الاحتلال على استنزافهم، وإرهاق أهاليهم، والانتقام منهم مهما تقادم الزمن.
هؤلاء الذين يخصّهم الاحتلال بالعذاب الدائم، والذين يعيشون هذه المعاناة المستمرة، بالرغم من كل ما تخلقه فتنة المقارنة بينهم وبين الآخرين، والذين قد لا ينتبه لمعاناتهم هذه أقرب الناس إليهم، والذين يحتسبون -في رضا- معاناتهم عند الله ولا يشكون، فيحسبهم الجاهل مرتاحين بلا همّ؛ هم أجدر الناس بأن نخصّهم بمعايدة خاصّة، وأن ندعو لهم بالعوض الجزيل عند الله تعالى.