مقالات مختارة

من الحفرة إلى البئر

1300x600
لست أشك في أنها محض مصادفة أن يتزامن تنديد المفوض الأعلى لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بتزايد أعداد الدول غير المتعاونة في مراقبة حقوق الإنسان مع المذبحة المرتقبة في القاهرة اليوم لنشطاء حقوق الإنسان من خلال قضية التمويل الأجنبي. ذلك أن المفوض الدولي زيد رعد الحسين ألقى في جنيف كلمة أمام الدورة الـ33 لاجتماع المجلس العالمي لحقوق الإنسان، أثار فيها الموضوع، وقال إن تلك الدول يمكن أن تعوق أعمالنا أو تغلق مكاتبنا، لكنها لن تستطيع أن تخرسنا بأي حال.

كانت جريدة "الأهرام" قد أبرزت الخبر في عدد الأربعاء 14 سبتمبر الحالي، قبل أربعة أيام من نظر قضية تأميم المنظمات الحقوقية المصرية التي تنظر اليوم (السبت 17/9). لم تشر الجريدة إلى اسم مصر بطبيعة الحال، لكنها أشارت إلى بعض الدول التي ذكرها الأمير زيد الحسين، التي كان منها تركيا والصين والفلبين، إذ انتقد تركيا لرفضها المراقبة في الأقاليم الكردية المضطربة، كما أنه أشار إلى أن الصين تجري مباحثات مع مكتبه منذ أحد عشر عاما حول مهمة مفوضية حقوق الإنسان. كذلك طالب بإتاحة الفرصة للعمل في الفلبين التي شهدت مقتل المئات من تجار المخدرات المشتبه بهم في إطار الحرب التي تشنها السلطة ضد المخدرات. أشار أيضا إلى رفض الحكومة الأمريكية التحقيق في الانتهاكات الخطيرة التي وقعت في معتقل غوانتانامو الشهير.

في حين تم تجاهل حصة مصر من العملية، فإن بيان مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان الذي تحدث عن معاناة المنظمات الحقوقية وما ينتظرها خلال محاكمة اليوم وفي الموضوع حقه؛ إذ ذكر أن القضية المنظورة تشكل نموذجا لحلقات التنكيل والانتقام التي تمارس بحق منظمات حقوق الإنسان ونشطائها، من خلال توجيه الاتهام إليهم في قضية "التمويل الأجنبي". ومن المتهمين في القضية الذين صودرت أموالهم ومنعوا من السفر خارج البلاد، مدير مركز القاهرة وزوجته وبناته، بالإضافة إلى اثنين من العاملين فيه. فضلا عن التحفظ على أموال مركز هشام مبارك للقانون ومديره مصطفى الحسن، والمركز المصري للحق في التعليم ومديره عبد الحفيظ طايل، وتضمنت القرارات الإدارية منع كل من جمال عيد مؤسس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان وزوجته وابنته القاصر، وكذلك حسام بهجت مؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، من التصرف في أموالهم.

ذكر البيان أن النشطاء الحقوقيين ما برحوا يتلقون منذ ثلاث سنوات إنذارات بالإغلاق، شملت المنظمات المسجلة بمقتضى قوانين مصرية أخرى غير قانون الجمعيات القمعي. أعقبت ذلك محاولة تمرير قانون جديد لتأميم المجتمع المدني أشد قمعا من القانون المعمول به، وذلك بعد دفن مشروع قانون كانت المنظمات المدنية قد توافقت عليه مع الحكومة في عام 2014. وتتابعت بعد ذلك الضغوط بإحياء مسألة التمويل الأجنبي والتوظيف السياسي والأمني للجهاز القضائي، للتخلص من المنظمات ذات الباع الطويل ــالذي تجاوز ربع قرن ــ في الدفاع عن حقوق الإنسان في مصر.

هذا الحاصل مع المنظمات الحقوقية -ولا ننسى إغلاق مركز النديم لمساعدة ضحايا التعذيب- يمثل فصلا واحدا في سجل الانتهاكات، التي تجاوزت تلك المنظمات وطالت أعدادا غفيرة من المصريين لا يعرف أعدادهم بالضبط -وإن تراوحت أرقامهم الشائعة بين 40 و60 ألفا- تعاني أعداد منهم من مرارات السجون المعروفة وغير المعروفة. هناك تجمع يدافع عن نزلاء سجن العقرب، وذلك بخلاف المختفين قسريا الذين يدافع عنهم تجمع آخر يوجه نداءات شبه يومية للكشف عن مصيرهم.

إن معاناة المنظمات الحقوقية المستقلة لها منابرها التي تنقلها بين الحين والآخر، في داخل مصر وخارجها، وهي أفضل حظا من آخرين منسيين يقبعون في السجون منذ شهور أو عدة سنوات ولم يسمع لهم صوت ولا رأينا لهم صورا. الأمر الذي يعني أن مشكلة المنظمات الحقوقية رمز لمشكلة الإنسان في مصر، الذي خرج من حفرة بعد 25 يناير عام 2011، ليقع في بئر بعد ذلك.

الشروق المصرية