كتاب عربي 21

صلالة التي أكرمها ذو الجلالة

1300x600
كلما تقاعست عن إرسال مقال لصحيفة أو مجلة تستكتبني، أحسست بتأنيب الضمير، فمن أثقل الأشياء على نفسي أن تلاحقني إدارة أي مطبوعة، طالبة إرسال مقال حان موعد نشره، ومع هذا فلتعذرني أسرة تحرير هذه الصحيفة "عربي21"، وأنا أعترف بأنني لم أحس بالتقصير، لأنني لم أرسل إليها مقالي ليوم السبت الماضي، وعذري في ذلك أنني قضيت عطلة عيد الأضحى المبارك في صلالة، وأتمنى لكل من يقرأ سطوري هذه، أن يشهد أعيادا كثيرة وهي/ هو ينعم بالسعد والرغد والعمر الممتد.

صلالة ليست مجرد مدينة بل إقليم كبير في سلطنة عمان، وتحل به فلا تصدق أنك في جزء أصيل من جزيرة العرب والخليج العربي، هذه منطقة قال فيها الرحمن للأشياء كوني فكانت سهولا وجبالا، ووديانا وتلالا، وينابيع ترشح ماء زلالا، وغيوما وظلالا، وبحرا هادئا فيه الموج يتلألأ، وتحين ساعة مغادرتها فيقول قلبك "لا، لا".

تجوس في وديانها وتمتطي صهوة صخور جبالها، فتعجب كيف يجتمع مناخ استوائي كما توحي به الأشجار والنباتات الكثيفة مع درجة حرارة شديدة الاعتدال. هذه صلالة التي أنستني أمر مقالي الأسبوعي هنا، ولست بأفضل من عبد الرحمن بن عمار الذي اشتهر باسم "القس" وكان زاهدا متعبدا، ثم وقع في غرام جارية في المدينة قال فيها شعرا كثيرا، فوجد شاعر ماجن في الواقعة – التي لا أجزم بصدقيتها – ذريعة لإباحة الهوى والتصريح بالوقوع في الحب: الآن فليعلن من شاء تهيامه / قد وقع القس في حب سلامة / لم يحمِه الحبَ / صيامه الدائم / وخوفه الربَ وليله القائم/ أين عباداتك / يا ابن أبي عمار / أضحت صباباتك أحدوثة السمار..

ليست غايتي هنا الترويج للسياحة في صلالة، فتضاريسها ومناخها وجغرافيتها وتاريخها تقوم بالمهمة على خير وجه، بل لفت الانتباه إلى أن في دولنا العربية مناطق ومرافق سياحية تضاهي ما هو موجود في أوربا أو شرق آسيا، لمن يعشق جمال الطبيعة في أبهى تجلياته، ولكن ما إن تدخل هذا البلد العربي أو ذاك سائحا، عبر مطار أو ميناء بري أو بحري، حتى يعطيك جماعة الجمارك والجوازات الانطباع بأنك شخص طفيلي أو أبله، لأنهم يتفننون في شرشحتك وبهدلتك، إما لأنهم فوق المساءلة، أو ليرغموك على تقديم رشوة، ولا عجب فنحن قوم نسمي الرشوة "إكرامية"، وشتان ما بين الحرام والإكرام.

عاهدت نفسي منذ أكثر من عشرين سنة على عدم زيارة أي بلد عربي إلا مكرها، أي في مهمة رسمية أو لقضاء أمر ضروري، بعدما تعرضت في مطارات عدد منها لمعاملات في غاية السوء: عسكري الجوازات الذي تقف أمامه يجري مكالمة هاتفية يناقش فيها نتيجة مباراة في كرة القدم، ثم يتسلم جواز سفرك ولا ينظر إليه ولا إليك، وإذا كنت محترف تسفار فعليك بالصمت "الرهيب"، لأن صاحب السعادة يستدرجك للتحرش به، لتعطيه ذريعة كي يشبع ميوله السادية، أو لإصدار فتوى فورية بعدم صلاحية أوراقك الرسمية (هذه معضلة قد تبدو عصية على الحل ولكن بضع وريقات نقدية تعيد لتلك الأوراق صلاحيتها).

وعن تجربة ومعايشة فإنني أقول إن الإنسان العماني عموما من أكثر خلق الله تهذيبا ولطفا وشهامة، تنزل في مطاراتها فلا تجد سوى الابتسام والتحية من مسؤولي الجوازات والجمارك، وكسائح عليك أن تستقل سيارات الأجرة، ولكن وعلى مسؤوليتي فإنك لن تتعرض لـ"الاستغلال"، والاستهبال من قبل سائقيها، وما من سيارة أجرة ركبتها في صلالة إلا ووجدت سائقها يقوم بدور الدليل السياحي ويحدثك عن المواقع التي يتعين عليك زيارتها باعتزاز وحب شديدين.

وأجمل من كل ذلك أن تحديث المرافق السياحية تم بالتصالح مع الطبيعة، فالشوارع حسنة السفلتة، تعلو وتهبط وتتثنى في غنج، في انسجام مع التضاريس (الكنتور) الطبيعية، وينابيع المياه تتدفق كما كانت تفعل منذ آلاف السنين في مجاريها الطبيعية، وكي لا تضيع هباء فقد شيد الأسلاف الأفلاج لتصب في خزانات تروي الناس والزرع والضرع، وكلما صعدت جبلا رأيت الينابيع تتخذ لها مجرى بين الصخور ويأتيك صوت سميح القاسم: صخرة أخرى على المجرى/ ولكن المنابع/ تلهم التيار مجرى آخر نحو مصبه/ صخرة أخرى على المجرى ولكن المنابع/ أبداً تهدر في كل عروق الأرض/ تمتد وترتد/ وتعلو وتدافع..

غايتي من كل هذا الغزل في صلالة، أن أقول إن في بلداننا مواقع للسياحة النظيفة الخالية من العهر والابتذال والابتزاز، وأن اقترح على "حركة تحرير" عربي 21 أمرا ما، طالما أن رسالتها هي تحرير الكلمة، وكما يوحي اسمها، الوصول بالإنسان العربي إلى القرن الـ21.