كتاب عربي 21

مصر: معركة التمويل الأجنبي!

1300x600
الحكم الذي صدر بإدانة خمسة من الحقوقيين في مصر، هو مجرد فاتح شهية، ولجس النبض به، والأمر يتوقف على حجم الإدانة الغربية له، فإن كانت قوية، قيل أنه وإن كان حكم لمحكمة الجنايات، فهناك أمل في إلغائه في النقض، أو الاكتفاء بهذا القدر، دون الإدانة في الشق الجنائي من القضية، وعدم التوسع في إدانة آخرين، وإن جاء الاستنكار الغربي دون مستوى الضغوط، فسوف يفتح شهية السلطة الغاشمة على التنكيل، لاسيما وأن المتابع يمكنه الوقوف بسهولة على أنها قضية لها ما بعدها!

في البدء، أرجو أن يعذرني القارئ، إن استخدمت أوصافا متداولة مثل "حقوقي"، أو "منظمة حقوقية"، بعد أن استقر في الوجدان بعد الجرائم التي ارتكبها النظام الانقلابي في مصر، ومن بينها جرائم إبادة، أن حركة حقوق الإنسان في بلادنا زائفة، ولا يوجد حركة حقوقية جادة، فبعد الانقلاب نظرنا للنشطاء الحقوقيين، فوجدناهم ليسوا أكثر من نشطاء سياسيين، وهو الأمر الذي تطرق له أحد مؤسسي هذه الحركة المحامي "نجاد البرعي"، فالحقوقيون أيدوا الانقلاب العسكري، وكانوا أدواته في التبرير والادعاء، ولنا أن نعلم أن النيابة العامة لم تتصدر المشهد، لتبرر مذبحة رابعة، فقد تصدرها حقوقيون، وأعضاء ما يسمي بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، المعين من قبل "المؤقت" عدلي منصور، ثم أنهم انتشروا في المحافل الدولية ليدافعوا عن جرائم القتل، والاعتقال، والاختفاء القسري، وهي جرائم ارتكبها نظام عبد الفتاح السيسي، وقد وصفوا القتيل بالقاتل!

عندما أستخدم الوصف "حقوقي" فإنني هنا أخذ بالقاعدة الأصولية التي تقول: "خطأ شائع أفضل من صواب مهجور"، والخطأ الشائع هو في إطلاق وصف "الحقوقي" على "جمال عيد"، في حين أن الصواب المهجور هو "المحامي"، بحكم كونه عضوا في نقابة المحامين، ولا أعرف إن كان يمارس المحاماة خارج دائرة اختصاص محله المختار وهو "الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان"، أم أن ممارسته لها داخل هذه الحدود. والخطأ الشائع هو وصف "حسام بهجت" بـ "الصحفي"، مع افتقاده للشروط المتعارف عليها دوليا كمتطلبات للعمل في مهنة الصحافة. كما أننا لا نعرف أنه مارس العمل الحقوقي خارج الدائرة الممولة غربيا، وهى حقوق البهائيين والدفاع عن قضية الشواذ.. يقولون أنه أيضا "محامي"، ولا أعرف إن كان يتكسب معاشه من ممارسة هذه المهنة، أم أن انتمائه لها معقود بمجرد كونه عضوا في النقابة بمقتضي حصوله على ليسانس الحقوق!

هذه الحالة "المشوهة" لحركة حقوق الإنسان في مصر، مرتبطة بمرحلة النشأة والتكوين على يد المنظمات الغربية، وقد تشكلت في البداية وربما استمرت إلى الآن من يساريين وناصريين وزاحمهم بشكل خجول بعض الإسلاميين، وهى توجهات لم تضبط ملتبسة بالدفاع عن قضية الحرية بمعناها العام، ومثلي لا يفهم أن يتحول ناصري إلى حقوقي، ومشروع عبد الناصر قام على القمع، والمعتقلات، والقضاء الاستثنائي، والمحاكم العسكرية. لكن بالنظر إلى ارتباطات هؤلاء بالجهات الأجنبية (الأمريكية والأوربية) سنكتشف أنهم انسلخوا في هدوء من كل ما يربطهم بعبد الناصر، الذي قام مشروعه في جانب منه على رفض الهيمنة الاستعمارية الغربية!

ولأنهم لم يكونوا حقوقيين يوما، فعندما قامت ثورة يناير، فقد ذهبوا يزاحمون في العمل السياسي، ولأنهم لم يمكنوا بسبب افتقادهم للحضور الشعبي، فقد وجدوا في الانقلاب العسكري فرصتهم لأن يتخطوا الرقاب بالتعيين، دون الحاجة لإرادة الناخبين، وبالغوا في إثبات الولاء، لكنهم في النهاية اصطدموا بأن ما في القلب في القلب، وأن الذي عاد للحكم هو سلطة مبارك، بكل ما تحمله من عداء لأصحاب هذه المنظمات الحقوقية (بوتيكات أدق)، ونظرتها القديمة إلى أن كل متمول من الخارج فهو عميل، يعمل ضد المصالح العليا للبلاد، وفي مرحلة "الدولة الانتهازية"، وسلطة المرتزقة التي تقبل التمويلات والمساعدات الخارجية، فقد كان سلوك دولة مبارك هو الحصول على كافة هذه المساعدات، وإذا كان من شروط منحها أن تذهب نسبة منها إلى منظمات المجتمع المدني، فقد أسست السلطة منظماتها، فكان المجلس القومي لحقوق الإنسان، والمجلس القومي للمرأة، ومجلس الأمومة والطفولة، فالسلطة دخلت على خط المنافسة على "السبوبة"، ولم يعد سرا الآن أن السبب الرئيسي وراء سجن الدكتور سعد الدين إبراهيم، الذي كان مقربا من نظام مبارك، حتى بدا الأمر عصيا على الفهم في بدايته، هو المشاجرة اللفظية التي جرت بين سعد الدين إبراهيم، وسوزان مبارك، أمام الجهات المانحة، والأول كان وباعتباره الخبير في مجال التمويل الأجنبي، قد أسس ما يسمي بجمعية "دعم الناخبات"، للاستحواذ على "السبوبة" الخاصة بهذا النشاط، فلما علمت حرم الرئيس المخلوع بذلك، فكرت في تأسيس "المجلس القومي للمرأة"، وكانت تريد أن تأخذ "كامل السبوبة"، فلا ينافسها فيها سعد، والذي كان كالفريك لا يحب شريكا!

يظل الدكتور سعد الدين إبراهيم وقورا، ومتزنا، وموضوعيا، ومحافظا على علاقته بالأنظمة، إلى أن يظهر المال، عندئذ يتحول إلى شخص آخر، لا يلقي بالا بعواقب الأمور، ولا يفكر فيها من أصله، وعقب الاحتلال العراقي للكويت جاءت (الشاعرة) الكويتية سعاد الصباح للقاهرة، وأسست منظمة تحمل اسمها في الأدب وخلافه، وولت أمرها للدكتور سعد الدين إبراهيم، وقد اشتكت لمبارك من أنها تعرضت لعملية نهب في المنظمة، ووجهت سهام اتهامها لسعد الدين إبراهيم فقال لها مبارك في برود، اذهبي للقضاء!

وإذا كنت لا أعرف مدى دقة الاتهام، فإن ما يلفت الانتباه هو عدم مبالاة مبارك بهذا الأمر، فلم يكن المخلوع يزعجه الفساد الشخصي من المقربين منه وإن كان يغضبه فقط أن يكون الفاسد دنيئا، وقد غضب على أحد الصحفيين وبدا كالثور الهائج، بحسب رواية من حضروا هذا اللقاء، ليس بسبب أنه تلقى أموالا من القائد الليبي معمر القذافي، ولكن لأن الصحفي بعد وصوله للقاهرة اشتكى للقذافي بأن أجهزة الأمن صادرت حقيبة الأموال منه، فاتصل القذافي بمبارك ولامه على هذا التصرف، ولم يكن صحيحا، وفي غضبه وجه مبارك حديثه لنقيب الصحفيين: قل لفلان عيب، ولم يكن الباعث لغضبه والموصوف بـ "العيب" هو في تلقي صحفي مصري مالا من جهة أجنبية، ولكن في أنه قال كلاما على غير الحقيقة للقذافي، وكان المخلوع يعامل القائد الليبي كما يتعامل المرء مع طفل، فلا يريد مشاكل معه، تذهب بالعلاقة إلى ما كانت عليه في عهد السادات، وفي الخلافات كان القذافي يقود "خناقة" شوارع، وصلت إلى حد اتهام حرم الرئيس الراحل في عرضها!

مبارك، وبعيدا عن مصالحه ومصالح أسرته، لم يكن يزعجه التمويل الأجنبي، إلا إذا كان ينتج موقفا ضد ممارسات أجهزته، وهذه أزمته مع فكرة التمويل الأجنبي في المجال الحقوقي والمدني، وربما كانت هذه ليست مشكلته شخصيا وإنما هي مشكلة الأجهزة الأمنية التي يقوم أداء النشطاء على كشف بعض ممارساتها، وربما كانت هذه الأجهزة، وراء طلبه بأن كل المساعدات الخارجية تأتي للدولة وهى التي توزعها على من تختار من منظمات، وهو ما كان مثار خلاف بينه وبين الجهات المانحة، في الخلاف لم يكن على المبدأ!

لكان في الأخير، فإن مبارك كان يأخذ بالمواءمة السياسية عند التعامل مع المنظمات التي تتلقى التمويلات الأجنبية كمقابل لأن تأخذ الدولة حصتها من المنبع ومن هذه الجهات رأسا، ولهذا فعندما نقل إليه في سجنه خبر قضية التمويلات الأجنبية بعد الثورة، والتي اعتقل بسببها نشطاء مصريين، وصدر قرار بمنع أمريكيين من السفر، قال في دهشة: المشير طنطاوي لا يمكن يقدم على هذه الخطوة، فهو يعرف طبيعة هذه المساعدات. فمصر كما قلنا تتلقى هذه المساعدات مقابل سماحها بأن يذهب جزء منها لمنظمات المجتمع المدني!
يقولون إن الذي وقف وراء هذه القضية، التي انتهت بهزيمة السلطة في مصر، هو عبد الفتاح السيسي مدير المخابرات الحربية حينئذ، ومعلوم أن الأمريكيين ضغطوا بقوة حتى حملوا المجلس العسكري على استصدار قرار قضائي يمثل العار بشحمه ولحمه، لإلغاء قرار قضائي سابق بخصوص المتهمين الأمريكيين بمنعهم من السفر، للحاق بالطائرة الأمريكية التي حلت بمطار القاهرة بدون سابق إنذار لنقلهم إلى واشنطن!
السيسي يفتقد للياقة السياسية، وبداخله رغبة في الانتقام من منظمات المجتمع المدني الممولة أجنبيا، ليس من منطلقات وطنية ولإيمانه أنها تفعل ما يتناقض مع الاستقامة الوطنية، وهو كلام له وجاهته وهناك كتابات قديمة ضد التمويل الأجنبي وتعده خطرا على الأمن القومي لعل أهمها الوثيقة التي كتبتها اليسارية الراحلة، "سناء المصري"، فالسيسي يتحرك مدفوعا بأن التمويل الأجنبي كان وراء ثورة يناير، وقال كبيرهم "طنطاوي" إنها مؤامرة خارجية، فالقوم كذبوا وصدقوا أنفسهم، وهناك أجهزة أمنية تضغط في سبيل الانتقام من هؤلاء، الذين أوقعوا بها هزيمة يوم 28 يناير، وضغوطها القديمة كانت "المواءمة السياسية" في عهد مبارك تقمعها عند مرحلة معينة!

لقد تم إعداد القضية المعروفة إعلاميا بـ"250 أمن دولة عليا" في انتظار اللحظة المواتية للانقضاض على من وردت أسماؤهم فيها، مع أنهم جميعا أيدوا الانقلاب العسكري وكانوا بوقا له وأداة، وهو انحياز كان يشفع لهم ليغفر لهم السيسي، لكنه يرفض الصفح والغفران، فهو استخدمهم في تبرير جرائمه، لكنه أيضا يريد أن يطوي صفحتهم.

للدقة فهم يتطوعون للدفاع عن هذه الجرائم، خوفا وطمعا، والنشطاء الحقوقيين جميعهم الذين انحازوا للانقلاب متورطون في قضية التمويل الأجنبي، وعندما تشاهد الناشطة "داليا زيادة" تستدعي في كل برنامج تلفزيوني للهجوم على أستاذها سعد الدين إبراهيم، فتفعل بحماس، ستقف على حجم المأساة الإنسانية!

فداليا لم تكن لتعرف سكة التمويل الأجنبي لولا عملها تحت رئاسة "الكفيل العام" الدكتور سعد الدين إبراهيم، لكنها وجدت أن سكته خطرة، فخرجت من عباءته، وقدمت نفسها بأنه يمكن أن يكون هناك "متمول وطني" مثلها، و"متمول خائن" مثل سعد الدين إبراهيم، فأسرفت في إظهار الولاء والطاعة لسلطة الانقلاب، والتقرب منها بالنوافل، لكن في المقابل يبدو نظام السيسي عازم على الانتقام من الجميع، فقط هو يتحسس موضع أقدامه!

ولم تكن مفاجأة لواحد مثلي أن تنشر الصحف بعد ثلاثة شهور من الانقلاب نقلا عن مكتب النائب العام البدء في التحقيق في البلاغ الذي يضم 250 متهما بتهم تلقي أموالا من الخارج، وكان معظمهم يقف خلف الانقلاب العسكري ومعه بـ "الباع والذراع"، وظل الخبر يتداول ليومين قبل أن يصدر النائب العام بيانا يعلن فيه عدم صحة ما نشر ويعد بحساب من نشروا هذا الخبر الكاذب، قانونا.

كانت الملاحظة هنا أن الخبر لم تنشره صحيفة واحدة، ليقال أنها "الفبركة الإعلامية"، ولكن نشرته أكثر من صحيفة وأكثر من موقع إلكتروني، فضلا عن أن النفي لم يكن في الحال، ولكنه كان بعد مرور يومين، وقبل هذا وبعده لم يف النائب العام بما وعد بالتحقيق مع من نشروا هذا الخبر منسوبا للنائب العام بتهمة نشر أخبار كاذبة!

لقد ظهر جليا أن قائد الانقلاب لم يجد الفرصة مواتية لهذا القرار، فكان التراجع ببيان النائب العام، فهو يقدم ويدبر في انتظار اللحظة المناسبة، لاسيما وأن التمويل الأجنبي لم يكن "فكه"، فينسب للسفيرة الأمريكية "آن باترسون" قولها أن واشنطن مولت المعارضة المصرية بـ 40 مليون دولار، منذ ثورة يناير، وكان هذا التصريح في يونيو 2013، فإلى من ذهب هذا التمويل؟ وما هي أوجه إنفاقه؟!

عندما يبدأ انتقام العسكر فلن يميز بين "الحقوقي" جمال عيد، و"الناشطة" داليا زيادة، ففي فقه الحكم العسكري أن من يؤيدنا يفعل هذا خوفا منا، ولا أمان للمؤيد عن خوف!

قال عبد الناصر كلاما شبيها بهذا عندما سأله هيكل عن سبب إصراره على تأميم الصحافة وكل أصحابها يؤيدونه وكل رؤساء التحرير يتبنون مواقفه؟!

عندما تمت الدعوة لمظاهرات الأرض يوم 15 أبريل، قال "عيد" إنه لن يشارك في فاعليات يحضرها الإخوان!

ونقول له: ولو!
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع