المؤسسات الرسمية عربية كانت أو دولية تعزف اللحن الرسمي وتطلب من الآخرين الرقص عليه خاصة من العوام ومن السواد الأعظم المغيّب. عازف اللحن لا يختار اللحن ولا حتى آلات العزف بل من يختارها هو من يدفع أجرة العازفين ورواتبهم وكذا هو حال العاملين بهذه المؤسسات الرسمية.
فإذا كانت الأمم المتحدة ومنذ نشأتها غداة الحرب العالمية الثانية تمثل غطاء قانونيا للقوة العسكرية المنتصرة بالقنبلة النووية والدول المتحالفة معها فإن جامعة الدول العربية هي الغطاء القانوني للنظام الاستبدادي العربي الجاثم على صدر هذه الأمة منذ نهاية مرحة الاستعمار المباشر خلال الخمسينيات. بذلك تكون الأمم المتحدة غطاء دوليا للنظام العالمي الجديد بما هو منظومة استعمارية جديدة تعوض المنظومة الاستعمارية القديمة بالمرور من الاستعمار العسكري المباشر إلى الاستعمار عن بُعد بأدوات جديدة من بينها المنظمة الدولية نفسها.
الولايات المتحدة الأمريكية هي في الحقيقة من يدفع أجرة العازفين في المنظمة الدولية وهي التي استعملت حق النقض أكثر من خمسين مرة لصالح الكيان الصهيوني، ومرّرت عبر مجلس الأمن كل القرارات التي أرادتها لشن حروبها الاستعمارية في المنطقة العربية وفي غيرها من بقاع العالم.
أما جامعة الدول العربية فتاريخ حافل من الإخفاقات ومن العجز ومن الإيهام بالعمل العربي المشترك بمؤسسات بالية وأذرع ضعيفة لم تنجح في تفعيل قدرات الأمة ولا في استنهاض شعوبها والتعبير عن طموحاتهم وأحلامهم. جامعة الدول العربية درس في الخلافات العربية وشاشة من شاشات العرض المجاني لتشرذم الصف العربي ولغلبة الأحقاد وثارات داحس والغبراء على التعقل والروية والسعي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن خطورة الدور الذي تلعبه المنظمة الأممية أو جامعة الدول العربية لا يتمثل في هذا العجز والتقصير بل أخطر ما في الأمر هو الإيهام بالفعل أو بالقدرة على الفعل. كيف ذلك ؟
بالنسبة للأمم المتحدة تمثل المنظمة جهازا دوليا مهمته المُعلنة فض النزاعات بالطرق السلمية ونشر السلام في العالم وتحقيق قيم العدالة والحرية.. وكل الشعارات الجوفاء التي نعرفها. هي أداة للإيهام بالفعل عبر الشعارات واللقاءات والمؤتمرات وهي بذلك تمنع نشأة غيرها من المؤسسات للقيام فعلا بالفعل.
أي أن إيهام الشعوب بجدوى المؤسسة خطير في اتجاهين يتمثل الأول في عدم القيام بالوظيفة ويتمثل الثاني في منع غيرها من القيام بها وهذا هو أخطر أدوارها في الحقيقة. ملء الفراغات بالمكوّن الوظيفي المزيّف هو أخطر من ترك الفراغ فارغا أي أن عدم وجود المؤسسة هو أفضل من وجودها عاجزة عن الفعل.
لهذا فإن كل القوى الاستعمارية العالمية تمنع من بروز مؤسسات دولية فاعلة تستطيع تجاوز عجز الأمم المتحدة الذي تطور اليوم من ساكت عن الجريمة إلى مشارك فاعل في تغطيتها والتفويض لها مثلما حدث في العراق مع بعثة الأمم المتحدة التي انتهت إلى تدمير البلد وقتل أكثر من مليون من شعبه. الجامعة العربية تنهض بنفس الفعل الخطير خاصة أنها لا تقوم بوظيفتها وهي في نفس الوقت تمنع بوجودها نشأةَ غيرها للقيام بهذه الوظيفة. اليوم ومع وجود الأمين العام المصري أبو الغيط ـ صاحب الجملة الشهيرة في حق الفلسطينيين " من يعبر الحدود نقطع رجله" ـ تكون الجامعة العربية قد ارتدت إلى حضن الاستبداد الجاثم على الأرض المصرية وعلى الأرض العربية معا.
ما العمل؟ وكيف يمكن الخروج من مأزق المؤسسات الموبوءة والناشرة للوباء؟ بالنسبة للمنظمة الدولية فإن المسألة تتعلق بالقوى الدولية ولا يسمح حال العرب اليوم وهم على ما هم عليه من التشرذم والتناحر والصراعات المذهبية العقيمة بالخروج سالمين من بين أنياب هذه المؤسسة. لكن في المقابل يستطيع العرب بحدّ أدنى من توحيد الصفوف من تطويع المنظمة الدولية ومن كف أذاها على العرب وعلى المسلمين في العراق وفي فلسطين وفي سوريا وليبيا واليمن..
أما جامعة الفشل العربية فلا حلّ إلا حلّها وتعويضها بجسد حقيقي فاعل يستطيع إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الخراب العربي المنتشر في كل مكان لأنها تحولت إلى شاهد زور على كل المذابح التي تتعرض لها الشعوب العربية كل يوم بفعليْ الاستعمار والاستبداد وما بينهما.
لكن في المقابل لا نستطيع أن ننكر أن نشأة المؤسسات والمنظمات الكبرى سواء الاقليمية منها أو الدولية هي في الحقيقة عنوان لمرحلة معينة في تاريخ العالم بالنسبة للمنظمات الدولية وفي تاريخ المنطقة بالنسبة للمنظمات الإقليمية. لهذا فإن نشأة منظمات جديدة بديلة لن يكون ممكنا إلا بنهاية المرحلة الاقليمية والدولية وليست دعوات الإصلاح للمنظمات دولية كانت أو إقليمية إلا إطالة في عمر جسد ميت أو موبوء.