يقوم صندوق
النقد الدولي بإقراض أموال لا يأمل أبدا في استردادها! فالإصلاحات الاقتصادية الكلية التي ينص عليها كشروط للحصول على
قروضه؛ تضمن دائما ألا يكون المدين قادرا على السداد. وعلى هذا الأساس يتم تصميم برامج التكييف الهيكلي لصندوق النقد الدولي لكي تحد من إيرادات الدولة، وتعوق من قدرة الأمة المدينة على سداد قروضها.
وبعبارة أخرى، فإن شروط الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي تضمن أن تظل الدول المدينة مديونة، وإلى الأبد. وهذا طبعا يبقيها تماما تحت سيطرة صندوق النقد الدولي، الذي يصبح في إمكانه أن يملي السياسة النقدية الاقتصادية، والتجارية لهذه الدولة، ويملي كيف تخصص الحكومة ميزانيتها، وتحدد أجور القطاع العام، وتضع قوانين الاستثمار... إلخ. والجدير بالذكر هو أن اتفاقات قروض صندوق النقد الدولي تمتد لفترات تتجاوز عادة فترات حكم أية حكومة تستسلم لهم، ما يبطل في الأساس جدوى إجراء أية انتخابات ديمقراطية قد تحدث. فبغض النظر عن الحكومة التي سيتم اختيارها، ستكون في النهاية مكبلة بنفس الاتفاقات.
في 9 تشرين الأول/ أكتوبر القادم، سيقرر صندوق النقد الدولي ما إذا كان سيمنح أم لا يمنح،
مصر قرضا قدره 12 مليار دولار، وهو قرض لم يتم منحه مثيله في هذه المنطقة من قبل. شروط هذا القرض هي المتطلبات المعتادة لصندوق النقد الدولي: فمصر يجب أن تقوم بتطبيق نظام ضريبة القيمة المضافة، ويجب أن تقوم بخفض ثم إلغاء الدعم على المواد الغذائية والوقود، ويجب أن تقوم بتجميد أو تقليص أجور القطاع العام، ويجب أن تعتمد نظام تعويم الجنيه المصري، كما أنها يجب "أن تبذل المزيد من الجهد" لتسهيل واستيعاب الاستثمار الخارجي المباشر في البلاد. وبطبيعة الحال، سيكون عليها وضع أولويات سداد
الديون قبل أي شيء، وعلى حساب أي شكل من أشكال الإنفاق العام. وهذا طبعا سيجبر الدولة على التوقف عن تمويل القطاعات العامة مثل الرعاية الصحية والتعليم، التي سيتم بعد ذلك خصخصتها تدريجيا، لكي تعمل بشكل حصري بهدف الربح، لا من أجل الصالح العام.
لقد كان يجري تجهيز الأرضية لهذا القرض لمدة سنة ونصف على الأقل، وقد تعرضت مصر لأزمات اقتصادية مفتعلة، وكان يتم إلقاء اللوم دوما على التقلبات السياسية الناجمة عن الثورة. فتم استنزاف احتياطيات العملة الأجنبية للبلاد بشكل منهجي عندما طالبت شركات الطاقة الأجنبية الحكومة بمدفوعات نظير حصتها التي لم تستلمها من النفط والغاز، بعدما اضطرت الحكومة أن تستخدمها من أجل تلبية احتياجات الاستهلاك المحلي.
فكما تعلمون، الاتفاق الأساسي بين الدولة وشركات الطاقة هو أن كل طرف يحق له "نصف" كل ما يتم إنتاجه، فتقوم الشركات ببيع نصيبها في السوق الدولية. وإذا استخدمت مصر أكثر من حصتها المقررة من النفط والغاز، فهي تصبح "مدينة" للشركات بما يعادل ما كانت ستربحه هذه الشركات لو أنها باعت حصتها دوليا. فتعاظمت وتراكمت هذه "الديون" لتصل إلى مليارات من الدولارات، وتم إجبار السيسي على دفع مبالغ كبيرة في غضون الأشهر القليلة الأولى من رئاسته، مما حد بشكل كبير من احتياطيات العملات الأجنبية في مصر. وأدى استنزاف هذه الاحتياطيات، وإلحاح الشركات الأجنبية المتزايد لتلقي مدفوعاتها بالدولار فقط، إلى خلق الأزمة التي لن يكن ليتمكن من حلها إلا صندوق النقد الدولي. فكان المخطط محسوب بدقة بهدف دفع مصر إلى حافة الانهيار المالي، تحديدا حتى يهب صندوق النقد الدولي لنجدتها (جنبا إلى جنب مع البنك الدولي وغيره من البنوك "التنموية" الصغيرة).
وبمجرد أن تتبنى مصر نظام تعويم الجنيه، فسيصبح من المستحيل سداد قرض الـ12 مليار دولار؛ لأن سعر صرف الجنيه سيقوم بتحديده في الأساس دائنو مصر أنفسهم! وبعبارة أخرى، إن كنت تكسب 600 جنيه بالأمس من أجل دفع قسط عبارة عن 100 دولار، سيصبح في إمكانهم أن يقرروا أن عليك أن تكسب 800 جنيه اليوم لكي تقوم بسداد نفس القسط، وغدا سيكون عليك أن تكسب 1300 جنيه، وهكذا. وفي النهاية لن تكون قادرا على كسب ما يكفي من المال لأنهم هم من سيقررون قيمة عملتك.
هذا ما نسميه "استعمار الديون". ومع ذلك، ففي لحظة كتابة هذا المقال، أجد هناك صمتا تاما حول قرار 9 تشرين الأول/ أكتوبر بين الإسلاميين، وغيرهم من كل الأطياف "الثورية" في مصر!! لا يزال من الممكن إفشال هذا القرض، لإجبار صندوق النقد الدولي على الانسحاب من الصفقة!! هذا إذا كانت بيئة الأعمال في مصر غير مستقرة بما يكفي. فيتحتم على كل فصيل أن يقوم بالحشد من أجل هذه القضية، والعمل يدا بيد، لتعطيل الربحية والكفاءة التشغيلية للشركات متعددة الجنسيات في مصر، بما أنها هي المستفيدة من سياسات صندوق النقد الدولي. فإذا فقد المستثمرون الثقة في مصر، سينسحب صندوق النقد الدولي؛ لأنه لن يصبح هناك أي هدف من تهيئة الظروف القانونية لتسهيل الاستثمارات الطفيلية إذا كانت الشروط في الشارع متقلبة جدا بحيث لا تسمح لهم بالازدهار.