أزمة
الجنيه المصري ليست سوى انعكاس لأزمة اقتصادية شاملة يعاني منها الاقتصاد المصري، وأسوأ ما في أزمة الجنيه أنه لم يصل حتى الآن إلى القاع، بل إن كل المؤشرات التي تأتي من مصر تؤكد على أن الانهيار سيستمر خلال الفترة المقبلة، وسوف يؤدي إلى تداعيات خطيرة على الأوضاع المعيشية بسبب الارتفاع الجنوني المؤكد في أسعار السلع الأساسية.
والأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر هي وحدها القادرة على تفسير الموقف المصري في مجلس الأمن مؤخراً عندما صوتت القاهرة لصالح المشروع الروسي الذي يُشكل دعماً لإيران ضد السعودية، حيث أرادت مصر التلويح بأنه من الممكن أن تتحالف مع إيران وروسيا إذا توقفت المساعدات المالية الخليجية، أي أنَّ الموقف المصري كان محاولة لابتزاز السعودية حتى تدفع مزيداً من الأموال والمساعدات. والحقيقة أن مصر ليس أمامها في وضعها الحالي سوى أن تفعل ذلك لأن حجم
الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها أكبر بكثير مما يتصور أغلب الناس.
انهيار الجنيه المصري هو النتيجة الطبيعية والمنطقية للأزمة الاقتصادية التي بدأت منذ اليوم الأول لتولي المجلس العسكري إدارة مصر يوم 11 فبراير 2011، ثم تفاقمت في أعقاب الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرال عبد الفتاح السيسي يوم الثالث من يوليو 2013، وهو الانقلاب الذي كان من المفترض أن يؤدي إلى انهيار اقتصادي شامل وسريع لولا أنّ دول الخليج تدافعت لتقديم الدعم المالي بالعملة الأجنبية من أجل الحفاظ على النظام الجديد، ولذلك فإن الانهيار أصبح أسرع بكثير منذ أواخر العام 2015 عندما غابت المساعدات الدولارية الخليجية لمصر.
وبالنظر إلى رحلة انهيار الجنيه المصري نستطيع تسجيل المحطات التالية التي تؤكد بأن المصريين دفعوا ويدفعون ثمن الانقلاب العسكري وانتشار الجيش في الشارع، فضلاً عن أن عوامل الانهيار لا زالت قائمة، بما يدفع إلى الاعتقاد بأن الجنيه لم يصل حتى الآن إلى القاع وأن الهبوط سيتواصل:
أولاً: في 11 شباط/ فبراير 2011 تولى المجلس العسكري مقاليد الحكم في البلاد، وكان الدولار الأمريكي يعادل 5.8 جنيهات مصرية، بينما يزيد الدولار عن 15 جنيهاً، أي أنه فقد في خمس سنوات نحو 70% من قيمته، أما يوم الانقلاب العسكري في الثالث من تموز/ يوليو 2013 فكان الدولار عند مستوى 6.9 جنيهات، ما يعني أن جزءاً من الهبوط حدث بتولي المجلس العسكري الحكم، بينما حدث الانهيار الأكبر بالانقلاب العسكري وتبدد الآمال بتحول ديمقراطي نحو دولة مدنية حديثة ذات اقتصاد حر في مصر.
ثانياً: يوم 11 شباط/ فبراير 2011، أي يوم تولي العسكر الحكم في مصر كان لدى البنك المركزي المصري احتياطات بالعملة الأجنبية تبلغ 36 مليار دولار أمريكي، بينما هبطت في آب/ أغسطس 2016 إلى أدنى مستوى في تاريخ مصر عندما بلغت 15.5 مليار دولار، وهو ما يطرح سؤالاً كبيراً بالغ الأهمية: أين ذهبت أموال المصريين؟ ومن الذي نهب خزائن البنك المركزي؟.. هذا في الوقت الذي تلقت فيه مصر مساعدات نقدية من دول الخليج يسود الاعتقاد بأنها تصل إلى 50 مليار دولار منذ منتصف العام 2013، ما يعني أن النظام في مصر ابتلع المساعدات المليارية ومعها 20.5 مليار دولار كانت ضمن احتياطيات البنك المركزي في القاهرة!!
ثالثاً: خلال العام 2016 وحده ارتفعت المديونية الخارجية للحكومة المصرية (ديون بالدولار) بواقع 7.7 مليارات دولار إلى 55.7 مليار دولار بعد أن كانت العام الماضي 48 مليار دولار فقط، أما في نهاية العام 2010 فكانت المديونية عند 34.7 مليار دولار، أي أن المديونية الخارجية الدولارية ارتفعت في خمس سنوات بواقع 21 مليار دولار.
وبهذه الأرقام الصادرة بشكل رسمي عن البنك المركزي المصري، فإننا نجد بأن نظام السيسي ابتلع أكثر من 50 مليار دولار كمساعدات من الخارج، و20 مليار من الاحتياطي النقدي للبلاد، و21 ملياراً من الديون التي اقترضها من الخارج، أي أن نزول الجيش إلى الشارع في العام 2011، وتولي المجلس العسكري الحكم، وبعدها الانقلاب كلف المصريين واقتصادهم أكثر من 91 مليار دولار، وهو رقم فلكي كان من الممكن توظيفه في تنمية البلاد وتنشيط الاقتصاد بدلاً من إنفاقه على بناء السجون وقمع التظاهرات وتعزيز القبضة الأمنية وتغذية قنوات الفساد.
يُضاف إلى هذه الأموال التي تبخرت، أن انهيار القطاع السياحي يُفاقم من الأزمة الاقتصادية في مصر، وبغض النظر عن أسباب انهيار السياحة، فإن هذا القطاع يشكل ما بين 7% إلى 11% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، كما أن 20% من تدفقات العملة الأجنبية على مصر تأتي من هذا القطاع، بحسب البيانات الرسمية التي تنشرها الهيئة العامة للاستعلامات، وهو ما يعني أن انهيار السياحة هو سبب رئيس في أزمة الدولار التي تعيشها مصر حالياً.
ومع المعطيات التي أمامنا فإن البنك المركزي المصري أمام خيارين لا ثالث لهما، وسوف يضطر مرغماً للقيام بأحدهما، أما الخيار الأول فهو تعويم الجنيه، وهو ما يُطالب به أيضاً صندوق النقد الدولي، وعندها سوف يصبح سعر الدولار بين 20 و22 جنيهاً، وربما يهبط الجنيه أكثر من ذلك بكثير مع محاولة الناس الحفاظ على مدخراتها بالتخلص من الجنيه والاحتفاظ بالعملة الصعبة.
أما الخيار الثاني فهو أن يعيد البنك المركزي تسعير الجنيه ويُخفض طوعاً سعره الرسمي بنسبة تتراوح بين 40% و50%، لأنه غير قادر أصلاً على تأمين عملة صعبة تغطي العملة المحلية المتداولة، وتبقيها عند أسعارها الراهنة.
خلاصة القول، إن مصر تعاني من أزمة اقتصادية عميقة جداً وخطيرة، وهي الأزمة التي أدت إلى فقدان الجنيه المصري أكثر من 40% من قيمته خلال العام 2016 فقط، وفقدانه أكثر من 70% خلال خمس سنوات، وهذا يعني أن أسعار السلع الأساسية سوف تشهد ارتفاعاً جنونياً سيلقي بملايين جديدة من المصريين تحت خط الفقر.
أما تجاوز هذه الأزمة فلا يمكن أن يتم إلا بإعادة الاقتصاد المصري إلى مساره الطبيعي بما في ذلك كفّ يد الجيش عن الاقتصاد والسياسة، وإعادة الحياة المدنية إلى البلاد، بما يضمن محاربة الفساد وإعادة قطاع المال والأعمال إلى طبيعته، ومن ثم تدور عجلة الاقتصاد والسياسة بشكل صحي وطبيعي.
* نقلا عن موقع "ميدل إيست آي" - ترجمة: عربي21
* لقراءة المقال في المصدر الأصلي بالانجليزية - إضغط هنـــا