قضايا وآراء

عاهل المغرب ينتقد بشدة علاقة الإدارة بالمواطنين

1300x600
يُجمع كل من استمع أو شاهد مباشرة خطاب الملك محمد السادس، بمناسبة افتتاح الولاية البرلمانية العاشرة يوم الجمعة 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، على أنه أكثر من خطاب عادي، وأكثر من تعبير عن حالة عدم الاطمئنان على علاقة غير سليمة بين الإدارة والمواطنين.. إنه "محاكمة صادقة وصريحة وصارمة" من ملك عزَّ عليه أن يسمع، ويرى، ويلمس، إدارة مغربية عصرية، تدبّر وتُسير بعقلية غير عصرية ولا عقلانية. ويستطيع المستمِع والمُشاهِد لهذا الخطاب التاريخي الجزمَ بأن البلاد لم تشهد منذ تولي الملك الجديد العرش صيف 1999 أي خطاب من هذه الدرجة في القوة والصرامة والتشخيص الدقيق.

ليسمح لي القارئ الكريم بوضعَ الخطاب في سياقه؛ لفهم رسائله ومقاصده، والدروس المستفادة منه. فهو خطاب جاء بعد أسبوع من إجراء انتخاب مجلس النواب، 07 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، وهو ما يعني أنه موجه إلى النخبة البرلمانية بمجلسيها، وموجه أيضا إلى الحكومة المنتهية ولايتها، والتي ستشكل قريبا. بيد أن الخطاب في مراميه العامة ليس مُقتصرا على هذه النخبة في ذاتها و لذاتها، إنه تنبيه لها لما يعتري علاقة الإدارة بالمواطنين من اختلالات بنيوية، وما يجب على النخبة، صانعة السياسات العامة والقيمة على تنفيذها، القيام به لإعادة صياغة علاقة جديدة بين الإدارة بمختلف مستوياتها ودرجاتها، والمواطنين على اختلاف مراكزهم وخلفياتهم ومواقع تواجدهم.

ينطوي خطاب العاهل المغربي على أكثر من عنصر قوة.. إنه من بدايته وحتى نهايته تعبير عن قوة التشخيص، وتشريح خلل الإدارة المغربية، ورصد لمعاناة المواطنين وهم يقصدون مرافق إدارية تستمد شرعية تأسيسها وإحداثها من خدمتهم، والاستجابة الطوعية والتلقائية لمطالبهم العادلة وحقوقهم المشروعة. فالخطاب انتقد المنتخبين، المفترض فيهم تقدير نُبل مهام التمثيل والوساطة المنوطة بهم، في استغلالهم الشخصي لمواقع مسؤولياتهم، وممارسة المحسوبية في علاقتهم بالمواطنين، وضدّا في مصالحهم التي لا تجد طريقا عادلا إلى التحقيق والإنجاز.. والواقع ليس أوضح وأصدق من قول الخطاب، وهو يتحدث عن ممثلي المواطنين المنتخبين"...

ولكن، مع كامل الأسف، يلاحظ أن البعض (أي المنتخبين) يستغلون التفويض الذي يمنحه لهم المواطن لتدبير الشأن العام في إعطاء الأسبقية لقضاء المصالح الشخصية والحزبية بدل المصلحة العامة، وذلك لحسابات انتخابية.. وهم بذلك يتجاهلون بأن المواطن هو الأهم في الانتخابات وليس المرشح أو الحزب، ويتنكرون للعمل الحزبي النبيل..".

يُفهم من وضوح الخطاب الملكي وصراحته أن الأحزاب السياسية المُمثلة داخل البرلمان، وهي الجهة المعنية بالخطابـ مسؤولة عن العلاقة المختلة بين الإدارة والمواطنين، وأنها مطالبة باستيعاب مقاصد الخطاب ورسائله والعمل على تصريفها بإيجابية في سلوكياتها، عبر حُسن انتقاء المرشحين للانتخابات الجماعية والبرلمانية، ومرورا بمراقبتهم ومحاسبتهم، وانتهاء بتقديم حصيلة أعمالهم. ثم إن الخطاب الذي قدّم صورة صادِمة عن واقع الإدارة المغربية في علاقتها بالمواطنين يسائل في الحقيقة الأحزاب وعلاقتها بتدبير الشأن العام، ويطرح أكثر من استفهام عن قدرتها على تحمل المسؤولية النبيلة للتمثيلية والوساطة، التي يُفوِّضُها إياها المواطنون عبر آلية الانتخاب.

نلمس قوة هذه المساءلة وصرامتها في تشديد خطاب العاهل المغربي على اللجوء المنتظم والمستمر للمواطنين إلى الاستغاثة بالملك، والتماس إنصافهم، ورفع الحيف عنهم كلما ضاقت بهم سُبل العيش وهم يطرقون أبواب الإدارة، وسُدّت طرق العدالة وإحقاق الحق في أعينهم. ليس في الواقع أبدع وأعمق من تعبير خطاب العاهل المغربي حين توجه لأعضاء البرلمان قائلا: "يُقال كلام بخصوص لقاء المواطنين بملك البلاد، والتماس مساعدته في حل العديد من المشاكل والصعوبات"، ليُضيف: "وإذا كان البعض لا يفهم توجه عدد من المواطنين إلى ملكهم من أجل حل مشاكل وقضايا بسيطة، فهذا يعني أن هناك خللا في مكان ما". قبل أن يجيب: "أنا بطبيعة الحال أعتز بالتعامل المباشر مع أبناء شعبي، وبقضاء حاجاتهم البسيطة، وسأظل دائما أقوم بذلك في خدمتهم.. ولكن هل سيطلب مني المواطنون التدخل لو قامت الإدارة بواجبها؟؟ الأكيد أنهم يلجؤون إلى ذلك بسبب انغلاق الأبواب أمامهم، أو لتقصير الإدارة في خدمتهم، أو للتشكي من ظلم أصابهم"...

ليس هناك أوضح من هذا التشريح لمكامن الخلل والظلم في الإدارة المغربية.. و"الظلم، كما قال العلامة ابن خلدون منذ قرون، يُفسد العُمران".. وماذا بعد؟ فقد قال الملك كلمته، وفصل بما لا يحتاج إلى بيان، وهو القيم على احترام الدستور وسير المؤسسات، والساهر على نفاذ القانون.

يُدرك كاتب هذا العمود أن واقع الظلم في علاقة الإدارة المغربية بالمواطنين مشكلة ثقافية، ومحصلة إرث تاريخي طويل، وأن سُبل المعالجة تتطلب ردحا من الزمن، وتستلزم تغير منتظم في الذهنيات والعقليات.. لكن يعي في الآن معا أن رحلة إعادة صياغة علاقة الإدارة بالمواطن تبدأ بخطوات ثابتة، مدروسة، ولا تردد فيها. ففي الإدارة المغربية اليوم جيش من الموظفين، صغارا وكبارا، يقدر عددهم بـ557 ألف موظف.. وأن من الممكن بالتعبئة المستمرة، والتغيير بالقانون وبواسطته، وبإنصاف ذوي الجدارة والاستحقاق، ومعاقبة الفاسدين والمفسدين، يمكننا إطلاق التغيير الإيجابي المنشود.. ثم قبل هذا وذاك هناك إرادة ملكية صريحة وصادقة في إفسال روح الشفافية والفعالية والإنصاف في جسم الإدارة، فلماذا لا يحترم الجميع إرادة عاهل البلاد؟.