النداء والنهضة: للسياسة أحكام...ومسؤول كبير (3)؟
بعد ثورات"الربيع العربي" شهدت تونس انكسارا بنيويا في الحقل السياسي الذي كان إلى حدود انتخابات أكتوبر 2011 يشتغل بالتعارض الجوهري والمطلق مع "الإسلاميين". كان الإسلاميون إلى حدود 14 جانفي 2011 هو الشر المطلق أو التهديد الأكبر للأسطورة الأم لجميع الأساطير الصغرى، التي تروّجها النخب الموكّلة بالحراسة الأيديولوجية للنظام، ألا وهي أسطورة" النمط المجتمعي التونسي".
حملت نتائج الانتخابات التشريعية التأسيسية-رغم سيطرة المنظومة القديمة على الأغلب الأعم من المنابر الإعلامية- لتضع الإسلاميين-ممثلين في حركة النهضة في مركز السلطة، وهي سابقة في التاريخ السياسي التونسي بمختلف مراحله وعصوره. كان الإسلاميون يمتلكون إرادة جزء كبير من الناخبين، فكانت قوتهم "كمّية" أساسا، ولكنهم لم يكونوا يمتلكون مثل خصومهم العلمانيين قوة"نوعية" كرستها سيطرتهم المطلقة -منذ بناء الدولة الوطنية- على ركائز السلطة الموضوعية، التي لا يمكن الحكم "الفعلي" دونها -كالإعلام والإدارة والمال والنقابات والمؤسسات الأمنية والعسكرية-.
لتشكيل حكومتها، كان على النهضة أن تبحث عن حلفاء وشركاء داخل العائلة الديمقراطية الموسّعة. وهي عائلة غير متجانسة إيديولوجيا ولا تحمل مواقف متطابقة من الإسلام السياسي، وإن كان الغالب عليها هو التوجّس خيفة من هذه الإيديولوجيا التي تتخارج مع المرجعية الحداثية-بل تضعها موضع تساؤل وتشكيك جذريين- لتُولّي بوجهها صوب التراث وفقهياته وأدبياته السلطانية، بحثا عن "أسلمة" للحداثة أو "تحديثا" للإسلام .
التوافق المجهض: أثر الضغائن الإيديولوجية والحسابات الشخصية الضيقة
خلال الحملات الانتخابية للمجلس التأسيسي كان هناك شبه إجماع بين من ينتمون إلى الشق الثوري على دعم كل الأحزاب الساعية إلى القطع مع الزمن التجمعي-النوفمبري من جهة أولى، ومع الاصطفافات الإيديولوجية الهووية من جهة ثانية، فكان أن راهن هؤلاء على تحالف تاريخي سيكون تأسيسيا حقيقيا للجمهورية الثانية ولفلسفتها المواطنية الاجتماعية: إنه التحالف بين حركة النهضة الإسلامية وبين حزبي المؤتمر بقيادة المناضل الحقوقي السيد منصف المرزوقي وحزب العمال بقيادة المناضل اليساري السيد حمة الهمامي.
ولكنّ السيد حمة الهمامي سرعان ما أعلن –تثنية على موقف السيد نجيب الشابي الذي صرح قبل الانتخابات، أنه لن يتحالف مع النهضة في صورة فوزها فيها- أنه غير معني بتشكيل الحكومة، وأنه سيكون جزءا من "المعارضة الديمقراطية" داخل المجلس التأسيسي. لقد أراد السيد نجيب الشابي الشابي-رغم نضاليته التي لا يمكن لأحد أن يطعن فيها- أن يرث نظام بن علي الرئاسي وأن يرث حزبه و"تجمعه النظاف" ولذلك لم يقبل أن يكون مجرد "رئيس صوري" في نظام سياسي تتمركز السلطة في بين يدي رئيس الحكومة. أما السيد حمة الهمامي فقد أغرته الاصطفافات الهووية والصراعات الإيديولوجية والتناقضات الرئيسية والثانوية، فلم يرتفع إلى مستوى لحظة التأسيس التي كانت تستدعي من الجميع التخفف من ذاكرتهم وتجاوز ضغائنهم وصورهم النمطية ومطلقاتهم، سواء أكانت دينية أم معلمنة.
كان ابتعاد السيدين حمة الهمامي ونجيب الشابي عن المفاوضات الحكومية والرئاسية مؤذنا بإجهاض هذا التحالف الثلاثي الذي سيقوي من شرعية الحكم، ويزيده صلابة في مواجهة قوى الردة التي عادت بعد حل الحزب الحاكم في عهد المخلوع بن علي (التجمع الدستوري الديمقراطي)، تحت أسماء جديدة مع المحافظة على شبكات المصالح الزبونية والجهوية ذاتها. وقد التجأت النهضة عندها إلى بناء شراكة ثلاثية مع حزبي المؤتمر والتكتل، وهي شراكة كانت تحمل في داخلها بذور الفشل، إذ قامت من جهة أولى على أساس المحاصصة الحزبية والرشاوى السياسية، كما أنها لم تستطع أن تضمن تعاون أو حياد المكوّن اليساري بأذرعه السياسية والنقابية والجمعياتية. وهي أذرع سيكون لها دور كبير في الاستضعاف الممنهج لحكم الترويكا، حتى لو كان البديل عنه هو حكم ورثة المنظومة القديمة بقيادة نداء تونس وزعيمه السيد الباجي قائد السبسي.
التوافق الاضطراري أو هكذا يريد المسؤول الكبير
قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، صرّح السيد باجي قائد السبسي أنّ حزبه- وهو الوكيل الأساسي لخرافة "النمط المجتمعي" خطابيا ولمصالح البرجوازية واقعيا- لن يتحالف أبدا مع حركة النهضة بعد الانتخابات، لأنهما "خطان مستقيمان لا يلتقيان". كان الراسخون في منطق السياسة و"مكر التاريخ" يعلمون أن ذلك الخطاب الصدامي هو أساسا للتحشيد الانتخابي وللاستهلاك الإعلامي، وكانوا يتوقعون أن ينقلب عليه صاحبه ذاته في أقرب فرصة...ولكن لماذا؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أن نتذكر أن السيد قائد السبسي كان دائما "رجل دولة" ولم يكن أبدا "رجل إيديولوجيا"، ويجب أن نتذكر أيضا أن جميع خرافات النمط المجتمعي التي نظّر لها اليسار الثقافي تصبّ في النهاية في خدمة "مدن الفساد البرجوازي"-على حد عبارة الزعيم الصيني ماوتسي تونغ-، تلك المدن التي دفعت بالسيد قائد السبسي إلى الواجهة لحماية مصالحها المادية والرمزية. ولا يعني ما تقدّم إلا أمرا واحدا وهو أنّ معيار "الشراكة" عند "وريث البورقيبية"، سيكون إيديولوجيا في الظاهر، ولكنه سيكون براغماتيا في الواقع.
قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة وبعدها، حاولت النهضة أن تبعث برسائل طمأنة لزعيم النداء ومن ورائه للمنظومة القديمة، التي لا يمثل إلا واجهتها المؤقتة.
إنّ الانتماء إلى "العائلة الديمقراطية" قد يفرض على ساكن قرطاج-الطامع في تعديل الدستور صوب نظام رئاسي- أن يقوم بترضيات تعيد التوازن إلى بنية التسلط الشيو-تجمعية، وقد يفرض عليه أيضا أن يوزّع رشاوى سياسية لجماعة الجبهة الرئاسية والانتخاب المفيد-خاصة من المنتمين إلى اليسار الثقافي-، ولكنه انتماء لا يمكنه أن يُنسي السيد قائد السبسي أنّ الشارع ليس ملك هؤلاء "الديمقراطيين" وأطروحاتهم النخبوية، بل هو ملك طرفين عليه استدماجهما في منظومة الحكم بأي صورة كانت: حركة النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل.
بصرف النظر عن الاعتراضات الإيديولوجية التي تدولها الندائيون في وسائل الإعلام -أي المجادلة باستحالة التوافق مع النهضة لاختلاف المشروع المجتمعي الإسلامي عن المشروع المجتمعي الذي يدافع عنه نداء تونس-، فقد ردد هناك اعتراضا وازنا من الناحية الاقتصادية، ألا وهو حرمان بلادنا من الدعم السعودي والإماراتي السّخي، ذلك الدعم المشروط بإخراج الإسلام السياسي من دائرة الحكم بل من دائرة الفعل السياسي "القانوني" برمّته، كما حصل في مصر بعد الانقلاب العسكري على الرئيس مرسي. وقد أثبتت الأحداث أن هذه الحجة لا تحتاج إلى بيان تهافتها في ظل بنية تسلطية قمعية، لا تزيدها المساعدات والديون إلا غرقا من الفساد والتبعية.
عاشت النهضة بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة حرجا عظيما يمكننا رد أسبابه إلى عاملين حاسمين: العامل الأول هو وصول السيد باجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج رغم إرادة النهضويين الذين تمردوا على "ضبابية" موقف القيادة، وانحازوا في أغلبهم الأعم إلى المرشح المنتهية ولايته محمد منصف المرزوقي. أما العامل الثاني فهو أثر "رضّة الحكم" التي كادت أن تتحول إلى متلازمة مرضية تمنع النهضة من التفكير في احتلال واجهة الحكم"الصوري" مرة أخرى في سياق عام، مازال معاديا لها إلى درجة كبيرة لأسباب مختلفة.
تساؤلات لخاتمة مؤقتة
لو سلّمنا جدلا بضرورة التوافق بين الإسلاميين والعلمانيين لحماية السلم الأهلية والابتعاد عن شبح الاقتتال الأهلي، وليس لإعادة تونس إلى مربع 13 جانفي 2011، ماذا ربحت حركة النهضة –في مستوى قاعدتها الانتخابية وفي مستوى تمثيليتها في مراكز القرار - من هذا التوافق المبني على المنطق البراغماتي والاملاءات الدولية، وليس على مراجعات ذاتية عند العلمانيين خاصة؟ وهل إن التسليم بحتمية التوافق يعني بالضرورة عدم انتقاد أدائه واختياراته الكبرى، أي هل إن للتوافق في ذاته قيمة إذا ما كان بعيدا عن انتظارات الناخبين واستحقاقات الثورة؟ كيف يمكن لحركة النهضة أن "تُطبّع" مع الحقل السياسي التونسي، وأن تتوافق مع من لا يخفي عداءه لها –وهو متحالف معها- دون أن تفقد هويتها الإسلامية أو على الأقل دون أن تتبرّأ كثيرا أو قليلا من أطروحاتها المحافظة- حتى تلك القيمية-الأخلاقية والعرفية التي لا ترتبط بالمنظومة الفقهية بالضرورة-؟
وهل يمكننا اختزال الأزمة الهووية في حركة النهضة "تحديدا" أم إنها ظاهرة عامة تخترق كل الكيانات السياسية والفكرية بحكم انتقالية المرحلة وهشاشتها وانفتاحها على ممكنات متناقضة؟ وهل يمكننا اعتبار حكومة الوحدة الوطنية لحظة سياسية تقدمية؛ لأنها وسعت مبدأ التوافق وعممته أم إنها مجرد ارتكاسة تعكس تغوّل مؤسسة الرئاسة الباحثة عن عزل حركة النهضة، ضمن حكومة هي أساسا حكومة الجبهة الرئاسية المساندة للسيد قائد السبسي، بل حكومة جبهة الإنقاذ التي أعادت نداء تونس إلى واجهة المشهد السياسي بدعوى "حماية النمط المجتمعي التونسي"؟ وأخيرا، ألا يمكننا أن نقول بأن التوافق بأدائه الحالي هو قتل للحياة السياسية وانقلاب نسقي على استحقاقات الثورة، وأنّ من مصلحة التونسيين أن ينفك التوافق بين النهضة من جهة (ومن سيدخل في حلفها من الأحزاب العلمانية على أساس البرامج لا على أساس الايديولوجيا)، وبين نداء تونس من جهة ثانية ( مع حلفائه في اليسار الثقافي المرتد عن مقولات الصراع الطبقي، والساعي إلى حصر الصراع في المستوى الثقافي)، أم إن بلادنا تحتاج في المدى المنظور إلى تكريس هذا التوافق وليس إلى التدوال السلمي على السلطة بين طرفيه؟ إنها الأسئلة التي سنفصّل القول فيها ضمن الجزء الرابع والأخير من هذا المقال بإذن الله.