قضايا وآراء

القضية 10383 صحافة

1300x600
منذ اللحظات الأولى لانقلاب الثالث من يوليو 2013 في مصر كان واضحا أن رجال هذا الانقلاب لا يطيقيون الصحافة الحرة بحسبانها ألصق المظاهر بالحكم المدني، الذي يراه الجنرالات أبغض أشكال الحكم لأنه يجرئ الشعوب على حكامها، ويعطيهم حق المشاركة الفعلية في الحكم، لذا لم يكن غريبا أن يستهل انقلاب الثالث من يوليو 2013 عهده بإغلاق القنوات والصحف والمواقع الرافضة له، وهو ما يحدث عادة في كل الانقلابات العسكرية في العالم.

لم تتوقف هجمة النظام العسكري ضد حرية الصحافة عند إغلاق تلك القنوات والصحف وقتل 12 صحفيا واعتقال العشرات (حوالي مائة وخمسين ظل مائة منهم خلف القضبان حتى الآن) بل طالت برامج كانت سباقة عبر مقدميها وضيوفها وفرق تحريرها في الحشد لمظاهرات 30 يونيو لإسقاط أول حكم مدني في مصر الحديثة، وطالت مذيعين ومذيعات كانوا ملء السمع والبصر عقب ثورة يناير وحتى الانقلاب، لقد جرى إخفاؤهم بقرارات سياسية فاضطر بعضهم أن يواكب العهد الجديد ويضع حذاء في فمه واضطر بعضهم أن يبتلع لسانه ويسعه بيته، واضطر بعضهم أن يهاجر خارج مصر، ولكن تحت كل ظروف الضغط والقهر ظل نفر قليل من أبناء المهنة عاضين بالنواجذ على حريتهم واستقلالهم ومهنيتهم، وظلوا رافضين للانقلاب عملا لا قولا، وهؤلاء هم الذين ظلت أجهزة القمع تلاحقهم، وتعتقلهم وتغلق مواقعهم ومكاتبهم وتداهم بيوتهم. 

كانت أحدث الهجمات القمعية ضد حرية الصحافة تلك القضية المرقمة بـ10383 والتي ضمت مبدئيا 63 اسما من الصحفيين والإعلاميين وكذا عدة مواقع إخبارية تمت مداهمتها وتفتيشها ومصادرة مقتنياتها من أجهزة ومعدات، وكانت التهمة الموجهة لهذا العدد الكبير من الصحفيين وتلك المواقع هي نشر أخبار تكدر الأمن العام والتحريض على التظاهر في 11 نوفمبر باعتبار التظاهر جريمة رغم أنها تتمتع بحماية في نصوص الدستور الذي يحكم به العسكر أنفسهم.

لا الدعوة للتظاهر في حد ذاتها عملا مجرما ولا الكتابة عنها كذلك، وأنا شخصيا باعتباري أحد الذين تشرفوا بوضع اسمهم ضمن هذه الكوكبة كتبت وتحدثت مرات فعلا عن دعوات 11 نوفمبر تحليلا وتمحيصا لأسبابها ودوافعها واحتمالات وفرص نجاحها.. الخ، ولا أنكر ذلك، بل أشرف به، فهذا من صميم مهنتي، وهو أيضا من صميم وطنيتي وحبي لبلدي وشعبي، وهذا ما ينطبق على كثيرين غيري، بينما لم يكتب آخرون ولم يتحدثوا في هذا الشأن وتم الزج بأسمائهم في رسالة جديدة لتخويف الوسط الإعلامي وتذكيره بأنه تحت المقصلة دوما، وأن عليه أن يلتزم (التعليمات) إن أراد النجاة.

وكما في مرات كثيرة سابقة، فقد حرصت أجهزة القمع على توجيه تهمة سياسية لمن تقبض عليهم من الإعلاميين وهي الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين في محاولة لفصل هؤلاء الإعلاميين عن بقية الجماعة الإعلامية حتى يسهل تأديبهم أو حتى التخلص منهم في ظل صمت أو حتى قبول بقية الصحفيين والإعلاميين وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير من قبل، وهو ما دفعها لمزيد من التغول حتى طال قهرها إعلاميين ينتمون بالأساس لمعسكر 30 يونيو الذي أسس لهذا الحكم العسكري، ووجهت اتهامات بالانتماء للإخوان لشخصيات معروفة تماما بانتماءاتها اليسارية القحة والليبرالية الواضحة، ولم يقتصر الأمر على إعلاميين أو صحفيين عاديين بل وصل الأمر إلى قمة الهرم الصحفي باقتحام نقابة الصحفيين ومحاكمة نقيبها ووكيلها وسكرتيرها العام في خطوة لم يسبق لأي حكم أن فعلها من قبل، وحددت موعد 19 نوفمبر الجاري لإصدار الحكم، والرسالة واضحة أنه إذا كان ذلك قد حدث لأعلى رأس صحفي فإن حدوثه لمن هم دون ذلك أمر يسير جدا.

القضية الجديدة لن تقتصر على أسماء الـ63 صحفيا، فملفها مفتوح ليشمل كل من يعمل في المواقع التي تمت أو ستتم مداهمتها، وهي بالتأكيد أكبر محاكمة صحفية في تاريخ مصر، سبقها قضيتان كبيرتان هما ما عرف بخلية الماريوت وضمت 20 متهما (سواء حضوريا أم غيابيا) وقضية المركز الإعلامي في رابعة وضمت 16 إعلاميا، إضافة إلى ما عرف بقضية التخابر مع قطر والتي ضمت 4 إعلاميين، والحقيقة أن القضية الجديدة والتي هي الأكبر في تاريخ مصر تستلزم وقعة تناسبها من الوسط الصحفي والإعلامي عموما ومن نقابة الصحفيين والجمعيات الحقوقية على وجه الخصوص، ذلك أن هذه القضية فوق أنها الأكبر فهي أيضا تتركز على اتهامات تتعلق بالمهنة أساسا وهي نشر أخبار تكدر الأمن العام والدعم الاعلامي لدعوات التظاهر في 11 نوفمبر، وهي قضايا نشر، وحتى لو كانت الاتهامات صحيحة فإن الحبس سواء الاحتياطي أم الحكمي فيها ممنوع بنص المادة 71 من الدستور المعمول به حاليا، ومع ذلك فإن هناك حوالي ثمانية من الصحفيين في هذه القضية تحت الحبس الاحتياطي حاليا، وهناك أوامر ضبط وإحضار لبقية الأسماء ومن بينهم ثمانية أعضاء قدامى بنقابة الصحفيين، وهنا ينبغي على نقابة الصحفيين التمسك بحقها القانوني في إلزام النيابة العامة بإخطارها مسبقا قبل ضبط أي صحفي وتبيان طبيعة التهم الموجهة إليه وعدم بدء التحقيق معه إلا في حضور نقيب الصحفيين أو من يمثله، فإن امتنعت النيابة عن ذلك فللنقابة أن تخاصمها من جهة،كما أن عليها أن تدعو لجمعية عامة غير عادية لمراجعة هذه الهجمة التي لو مرت فإنها ستفتح شهية السلطة للقضاء على ما تبقى ومن تبقى من الصحافة والصحفيين. 

وعلى الوسط الصحفي والإعلامي عموما أن ينتفض دفاعا عن حريته وكرامته، فقد تسبب الصمت من قبل على إغلاق بعض الصحف والقنوات في إغلاق المزيد منها،  كما تسبب الصمت على حبس بعض الصحفيين بدعوى انتمائهم للإخوان في حبس آخرين لا ينتمون للإخوان، وقديما قالوا "ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض".