كتاب عربي 21

"عش المجانين"!

1300x600
بنجاح "دونالد ترامب" برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، فإن العالم يكون قد تحول إلى "عش المجانين"، وهو اسم لمسرحية قديمة، قام ببطولتها "حسن عابدين" و "جاد الحق متولي عويس"، و"محمد نجم"، و"ليلي علوي"!

ولولا أن قوات حلف الناتو تعجلت وقامت باغتيال الأخ العقيد معمر القذافي قائد الثورة الليبية، لصار بقاء الرجل الآن ضرورة، ولأصبح ملهما لكل العالم الذي يقوده المجانين، ومن بشار الأسد في سوريا إلى عبد الفتاح السيسي في مصر، ومن بوتين في روسيا إلى الغلام ابن أبيه في كوريا الشمالية الذي يقوم بإعدام كل من يعكر صفو مزاجه، كأن له "مزاج" ليكون له "صفو". وقد اكتمل المشهد باختيار الناخب الأمريكي، وعكس كل التوقعات، لهارب حديثا من مستشفي المجانين بالعباسية، ويكفي نظرة إلى وجهه وتصرفاته، لتقف على الحالة النفسية للرجل، فهذا أول رئيس في العالم له "قُصة"، وفي المرحلة القادمة قد يصنع من شعره "زعروعة" من الخلف، أو "ضفيرة"، تضبط إيقاعها "بنسة" يطلقون عليها في الصعيد "توكه"!

قبل سنوات، كان من الواضح أن مدير مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية، قد أصابه "الخفيف" من تعامله مع المجانين، فقد حدث ذات صباح أن فتح باب المستشفى لنزلاء المستشفى، ليمنحهم الحق في الحرية، وقد امتلأت شوارع القاهرة بهم، فمنهم من بحث عن جدار يحميه، ومنهم اهتم بعملية تنظيم المرور، وكنت تشاهد منهم من ينطلق خطيبا في الحافلات العامة، ويتحدث في موضوعات شتى بلغة رصينة يفتقدها عبد الفتاح السيسي، ومن سخريتنا من القوم، لم نكن نعلم أنه سيأتي اليوم ليصبحوا فيه هم قادة العالم، وإذا كنا في عالمنا العربي قد شاهدنا أمثالهم حكاما بقوة السلاح، فلم نكن نعلم أنه سيأتي اليوم الذي يختار فيه الناخب الأمريكي بإرادته الحرة المستقلة أحدهم لتسقط المرأة المعيلة "هيلاري كلينتون" على غير كل التوقعات، وهي على تواضعها ثقافيا، تبدو عبقرية بجانب "ترامب"، كما أنها تبدو قريبة من شكل رجل الدولة، وإن كانت في الموضوع هي امرأة تبحث من داخلها على رد للاعتبار، بعد أن خانها بعلها وحطم معنوياتها بعلاقاته المتعددة، لكنها في كل خطوة تخطوها وتبدو أنها صارت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الحلم، إذا به يتبين أنه سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء!

"ترامب"، وقد شعر بالفراغ العاطفي في غيبة القذافي، الزعيم الملهم للمجانين من أمثاله، فقد علق في السيسي، حد اعتباره مثله الأعلى، على النحو الذي ذكره عبد "الرحيم علي" في برنامج تلفزيوني نقلا عن حملة "ترامب" الانتخابية، وبطبيعة الحال فإن "ترامب" مدين بالولاء للسيسي، وقد ذكر مستشار الأول اللبناني "وليد فارس" أن تصريحات السيسي عن "دونالد" جذبت الأمريكيين لانتخابه".. يا له من شخص مؤثر، وإذا عجز في التأثير في المصريين، إلى درجة الاعتراف من داخل دوائره وأنصاره أن شعبيته في الحضيض، فإن تأثيره في الأمريكيين هائل على النحو الذي دفعهم لانتخاب "ترامب"، مما يؤكد صحة المقولة الشائعة "لا كرامة لنبي في وطنه"، وأيضا صحة الحكمة الصوفية "الشيخ البعيد سره باتع"!

وفي تقديري لو أن الأخ العقيد معمر القذافي ظل حيا يرزق، لما دفع الفراغ العاطفي لـ "ترامب"، إلى الاحتماء في حاكم مستجد مثل عبد الفتاح السيسي، ولنظر للقذافي على أنه العمدة المؤسس لتيار الرؤساء المجانين، الذي يقودون العالم الآن بفوز مجنون هو "ترامب"، الذي انتخبه الشعب الأمريكي بإراداته الحرة والمستقلة، على عكس كل التوقعات، وقد أنهى نجاحه أسطورة التحليل السياسي، واستطلاعات الرأي، التي أجمعت جميعها على نجاح "كلينتون"، وعلى سقوط "ترامب" سقوطا مدويا، وقد آن الأوان لإخراج الاستطلاع من معادلة البحث العلمي، والنظر للمحللين على أنهم تجار كلام، "وفنجرية بق"، وأنهم ليسوا أكثر من أناس يحلقون في الهواء فوق الغلاف الجوي، وبعيدا عن أرض الواقع، ويخلطون بين الاستنتاجات والأماني، وبين الرؤية والهوى!

دعك من "حجة البليد" التي تتمثل في الادعاء بأن الإنسان العنصري لا يريد أن يجهر بهذا، فالأصل في الاستبيانات أنها لا تكشف هوية من يقومون بملئها والإجابة عن الأسئلة المطروحة. وماذا في الأمر يدفع للحرج، وقد كانت لقاءات "ترامب" على الهواء مباشرة، وجماهيره يظهرون عبر الشاشات وهم يحتفون به ويصفقون لكل كلامه العنصري، الذي أنتجه عقله المرتبك؟!

إذا استبعدنا فكرة الاستطلاعات الموجهة، فإن كثيرا من التحليلات التي يقوم بها من يتم تقديمهم إعلاميا على أنهم خبراء في الشأن الأمريكي، يعيش أصحابها في جيتو، وأسرى للفكرة التقليدية، التي تقوم على أن التفوق للنخبة بذات الشكل القديم، ولا ينتبهون إلى أن هناك ما جد في المزاج الأمريكي، مثل غيره من الأمزجة، وهو تقدم النموذج العشوائي، فكان الانحياز لمجنون مثل "ترامب"، الذي تسبب نجاحه في فقدان كثير منا للرؤية السليمة، وبحديث أكبر ما يكون إلى التسرية عن النفس، والكلام عن أن السياسة الأمريكية واحدة، وأن الرئيس لا يحكم، وأن واشنطن بلد مؤسسات!

من قال هذا الكلام؟ وهل كارتر وبيل كلينتون، مثل بوش الأب وبوش الصغير والخلاف بينهما كان في الدرجة وليس في النوع؟ وهل كانت سياسات أوباما هي سياسات بوش الابن؟!

للأسف، فإن الصدمة دفعت للكذب على النفس بمثل هذا الكلام، في حين أن الغرب كله انزعج من هذه النتيجة وبأن يكون على رأس القوة العظمى شخص مثل "ترامب"، على نحو مثل صعودا طبقيا للمجانين، فلم يعد العالم الحالي يضيق بالقذافي وأمثاله.

لا يفل الحديد إلا الحديد، ولن يصلح للتعامل مع المجانين إلا مجنون مثلهم، فأفرجوا عن مجانينكم، حتى لا تأكلكم "كلاب السكك"!

ففي "عش المجانين" لا بقاء للعقلاء.