"نتشرفو بثورة البرويطة!" (أتشرف بثورة العربة--اشارة لعربة البوعزيزي). هكذا حدثت فقالت وريدة أم الشهيد عبد الرؤوف الكدوسي، الذي سقط شهيدا بالرصاص الحي لنظام بن علي في مدينة الرقاب. كان ذلك في افتتاح جلسات الاستماع التي نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة بداية من 17 نوفمبر. سقط الكدوسي شهيدا يوم 9 جانفي 2011 إثر استعمال السلاح الناري في وجه المتظاهرين المحتجين بمدينة الرقاب (سيدي بوزيد)، التي تسببت في مقتل 5 شهداء وإصابة 12 جريحا بإصابات متفاوتة الخطورة. كانت صرخة الأم وريدة هي العنوان الرئيسي لجلسة تميزت بكثير من التأثر. كانت ترد على من شوه وحقر من الثورة في تونس. تكلمت ببساطة ودون تعقيد، ذكرتنا جميعا الجذور العميقة للثورة اي الحق في الكرامة والتأمين الصحي والشغل. ذكرتنا أنها لم تقتص لابنها بالقانون وعن ظلم المحاكمات التي تلت ذلك، حيث تم الحكم سنة 2015 بعدم سماع الدعوى على أهم المتهمين بقتل الكدوسي وهو برتبة رائد في الأمن.
الجلسة الأولى التي بثت على الهواء في عديد القنوات، رغم تواتر قطع البث على القناة العمومية "الوطنية"، كانت حدثا تاريخيا، مكاشفة لا مثيل لها ولا قبل في السياق التونسي حيث استعرض ضحايا القتل والتعذيب تجاربهم أمام النخبة السياسية والحقوقية. لحظة مكاشفة تم فيها أخيرا إعادة فتح جرح لطالما بقي مغطى مما زاد من عفنه. وكانت أحد الشهادات الأكثر تأثيرا التي قدمها الباحث سامي براهم، الذي تعرض للتعذيب في كل سياقات الإيقاف والسجن في بدايات تسعينيات القرن الماضي، وهو صاحب الجسم الضعيف. قال سامي بكل أنفة وشموخ: "ضربونا على رؤوسنا لتحطيمنا عقليا.. فخرجنا من السجن وأخذت الماجستير وأنا الآن أحضر الدكتوراه… ضربونا على أجهزتنا التناسلية وسكبوا عليها قارورة إيتير حارقة ليحرمونا من الإنجاب.. وخرجنا من السجن وتزوجت وأنجبت طفلة عسولة أنشر صورها من حين لآخر للجلادين.." بكى أغلب من في القاعة حتى زعيم حزب العمال خصم حركة النهضة اللدود التي تم سجن سامي على أساس الانتماء إليها. اثر سامي براهم قدم أحد القيادات التاريخية لليسار جلبار النقاش شهادته عن اعتقاله وتعذيبه آخر الستينيات والسبعينيات، التي سبق أن وثقها في مذكرات "كريستال" الشهيرة.
تميزت الجلسة بالغياب اللافت لممثلي الدولة، حيث سجل الجميع غياب (مقاطعة) من "الرئاسات الثلاثة" بما في ذلك الرئيس السبسي، والبعض أشار إلى أن الأخير معني مباشرة بهذه الشهادات، بما أنها تشمل كل الانتهاكات بداية من سنة 1955 وخاصة في الستينيات، عندما كان أحد أهم مسؤولي وزارة الداخلية وتحديدا مدير الأمن فيها وكاتب الدولة. وهو الزمن الذي تم فيه تعذيب اليوسفيين والقوميين والبعثيين واليسار البديل. الحقيقة أن غيابهم هو الأمر الطبيعي ولا يمكن أن تكون الصورة منسجمة إلا بغيابهم وذلك لأمر أساسي، وهو رفض رموز المنظومة القديمة الاعتراف بالانتهاكات والاعتذار عليها؛ إذ تم محاربة مسار العدالة الانتقالية وتفخيخه ومحاولات تفكيك هيئة الحقيقة والكرامة. لهذا ما حدث بالأمس انتصار تاريخي للذاكرة وللحاضر أيضا، في سياق الصراع اليومي بين من يريد تثبيت الدولة الديمقراطية ومن يريد إرجاعنا للماضي.
ورغم أن السبسي وبعض العجزة الذين معه ومن تبقى من ماكينة النظام السابق يكابرون في الاعتراف بفضل الثورة عليهم، بعد أن تقاعدوا من السياسة لسنوات ولم يكن لهم "مستقبل" إلا بسبب دماء شهداء مثل الكدوسي، الذين سخر منهم السبسي مرارا، وروج أنصاره تعبير "ثورة البرويطة" للتحقير منها، رغم ذلك يقوم حزبه بشقوقه المختلفة باحتكار صفة "الشهيد" على أساس حزبي؛ إذ قامت دعاية الحزب منذ أكتوبر 2012 على أساس مسلمة أنهم ضحايا العنف السياسي، وأن "أول شهيد" هو المرحوم لطفي نقض، المنسق الجهوي لنداء تونس آنذاك. لكن هذا الأسبوع حسم القضاء في طوره الابتدائي أخيرا في قضية وفاته وبرأ ساحة المتهمين. وبمعنى آخر لم يعد لحزب السبسي "شهيده" الذي سوق على أساسه سردية الضحية، وكان أحد أساطيره المؤسسة.
بعد المداولات الطويلة التي سردت بالتفاصيل مؤيدات البراءة وتوقعات صدور حكم القضاء في قضية المرحوم لطفي نقض، المنسق الجهوي في ولاية تطاوين لحركة نداء تونس سنة 2012. تم الحكم وسط الأسبوع ببراءة المتهمين الرئيسيين مثل سعيد الشبلي ورفاقه، وبالتالي إن المرحوم نقض لم يتم قتله بل توفي وفاة طبيعية، بما يضع حدا للمتاجرة السياسية بالدم من قبل حزب السبسي.
لم تبق لهم حجة هذا الأسبوع إلا حربا شعواء ومفتوحة على القضاء. لم يهتموا بالحكم أو تفاصيله أو حججه. لم يسألوا عن تقرير الطب الشرعي النهائي والحاسم وعن تضارب الشهادات. لم يسألوا عن المحاولات اليائسة الاأخيرة للضغط على القضاة بوجود قيادات حزب السبسي بشقوقه في قاعة المحكمة. دخلوا في حالة هستيريا وإنكار وسيحاولون سحل القضاء في بلاتوهات شقيقة وصديقة.
فهل قامت الترويكا بإسداء تعليمات للقضاء؟! القضاء لم يحكم ببراءة الدكتور الشبلي عندما كانت الترويكا في السلطة. ولم يحضر قياداتها آنذاك جلسات المحكمة. حكم القضاء والسبسي راعي كل السلطة التنفيذية من القصبة إلى قرطاج، وأيضا التشريعية في باردو، وهو الذي أعلن لطفي نقض قتيلا رغم تقرير الطب الشرعي الأصلي الذي أكد أنها وفاة طبيعية، ووجه الإعلام الموالي له لتحويلها إلى محاكمة إعلامية بعيدا عن التقارير العلمية، ثم تعهد بكشف الحقيقة وهو في السلطة. للقضاء الآن مجلس منتخب يشرف عليه القضاة من ألفه إلى يائه لم يطعن فيه أحد. والقضاء اليوم حكم بوضوح بأن كل قضية المرحوم لطفي نقض تستند إلى شهادات الزور وبراءة المتهمين.
هناك شهود زور مباشرون سيقبعون في السجن، وهناك رعاتهم وعلى رأسهم من يستغرق في سبات عميق عند صدور الحكم في قرطاج (ولو أن موقعا قريبا من حزب السبسي يقول إنه استفاق مذعورا ليطلب خارج صلاحياته وزير العدل لتستأنف النيابة العمومية) الذين وظفوا الوفاة وتاجروا بالدم.
سيحكم شعبنا وليس القضاء على شهود الزور، والتحيل السياسي سيحكم على هؤلاء بما يستحقون… وسيبقى متشرفا بثورة البرويطة التي أقامت مؤسسات فعلية تشرف شعبنا، وستبقى جدارا يصد أي محاولات للرجوع إلى ممارسات الاستبداد والتعتيم.