ربما يقول البعض "لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها"، فلماذا إذن التباكي على أمة الإسلام وهي تُذبح بأيديها وبأيدي أعدائها ليل نهار، وقد تقطعت أوصالها أشلاء؟ وهل يضيرها أن يُسلخ جلد أشلائها بعد ذبحها؟
يوم الجمعة؛ الثاني من كانون الأول/ ديسمبر صوّت البرلمان السلوفاكي على قانون لا يمنع الأذان في المساجد وحسب؛ بل يؤسس لعدم إقامة المساجد في
سلوفاكيا. ولنكون أكثر دقة؛ فقد صوّت البرلمان السلوفاكي بالأغلبية لصالح مشروع القانون الذي تقدم به الحزب القومي السلوفاكي، الشريك في الحكومة الائتلافية، ذلك القانون الذي أصّل اليوم لقاعدة اعتراف الدولة السلوفاكية بدين ما عندما يكون عدد أتباعه 50 ألفا أو أكثر، فيما كان العدد المطلوب آنفا 20 ألفا على الأقل.
وعندما نتكلم عن جمهورية تحتكم للديمقراطية الحقة، فبرلمانها يمثل صوت نوابه الذين انتخبهم شعبهم، فتصويت البرلمان هو تصويت الشعب، بل هو صوت الدولة، ولهذا نقول اليوم إن سلوفاكيا كدولة في الاتحاد الأوروبي قررت منع إقامة المساجد للمسلمين فيها.
وعندما تتمحص بواطن الأمور بعيدا عن المشهد العاطفي، فلا بد أن تتداعى لك كثيرا من الأسئلة ومنها: ما الذي يخيف سلوفاكيا من المسلمين عندما يكون عددهم لا يتجاوز خمسين ألف نسمة؟ أي أقل من واحد في المئة من تعداد السكان الذي يقارب 5.5 مليون نسمة؟
ومن ثم، كيف لرئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيكو في مستوى وطبيعة تخصصه في القانون، بل في القانون الجنائي وحاصل على شهادة الدكتوراة في قانون الإعدام في جمهورية تشيكوسلوفاكيا التي تولدت منها جمهوريتا سلوفاكيا والتشيك.. كيف له أن يقود حملة ضد المسلمين في بلاده ويصرح علنا خلال أزمة اللاجئين السوريين بعبارات لا تنسجم مع مستوى تعليمه ولا منصبه كأستاذ جامعي؟ ومن العبارات التي تلفظ بها: "لن نسمح أبدا بتكوين مجتمع مسلم في سلوفاكيا"، "لا نريد لاجئين مسلمين"، "إننا نراقب جميع المسلمين في بلادنا فردا فردا".
قد يقول قائل: لقد صنع رئيس الوزراء ذلك خلال حملته الانتخابية سابقا ليستغل ذلك كدعامة أساسية له في حملته مستخدما الإسلام كعدو أول وخطر على الهوية القومية السلوفاكية. وهنا يبرز التساؤل: هل وصل الأمر بالشعب السلوفاكي بمن أخذ منهم بدعوى روبرت فيكو حد أن يتقبل الأمر بهذه السذاجة في الوقت الذي فيه نسبة المسلمين هناك لا تتجاوز واحد في المئة من عدد السكان؟ وكيف وقد اختلفت أحزاب المعارضة معه ومع حزبه في كثير من الأمور، لكنها جميعا اتفقت على محاربة الأقلية المسلمة في سلوفاكيا حتى لا تمارس حرية عبادتها في أماكن خاصة أسوة بالمواطنين المسيحيين هناك على اختلاف طوائفهم من الكاثوليك والبروتستانت وغيرهم؟ وهل يمكن أن يتقبل عاقل أن مئات من اللاجئين السوريين سوف يهددون الهوية القومية السلوفاكية؟
ويتداعى لنا المشهد في انفصامية كبيرة، حيث أن سلوفاكيا عضو في الاتحاد الأوروبي، بل هي ترأس دورته الحالية. ذلك الاتحاد الذي تتبنى دوله مبدأ تعدد الثقافات وتكفل الحريات لمواطنيها في ممارسة شعائر عباداتهم في أماكن مخصصة لهم.
لا شك أن وزننا تضاءل بين الأمم، وقد هُنّا على الدول القديمة والدول الحديثة الولادة عندما هان علينا اللاجئون السوريون ورضينا بتشردهم في أصقاع أوروبا؛ ليس بحثا عن ملجأ من القتل والتشريد فحسب، بل لاعتقادهم أن العيش في أوروبا يضمن لهم حق المواطنة التي يحلمون بها منذ زمن غابر بعد عيشهم تحت حكم طاغوتي أهلك الإنسان وسلبه كرامته. تلك الكرامة التي لا حق لمخلوق أن يأخذها من مخلوق حيث وهبها له خالقه سبحانه الذي كرمة وحمله في البر والبحر ليحسن خلافته في الأرض. بالطبع لم نحسن الخلافة ولم تنطبق علينا متطلبات خير أمة. الإيمان بالله هو الذي تقوم عليه خيريتها، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بالأمس صفعت سلوفاكيا ليس خمسة آلاف مسلم في أرضها، بل صفعت ما لا يقل عن 1.6 مليار مسلم، لأن الأمة الإسلامية ينتمي إليها كل إنسان يشهد بوحدانية خالقه في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات. بل لقد صفعت قانون الأمم المتحدة العالمي الخاص بحقوق الإنسان، الذي يقول في مادته الثانيه "لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود".
هنا تعود بنا الذاكرة لقضايانا الرئيسة التي لم تطبق عليها قرارات الأمم المتحدة. ولا أبرز من ذلك أكثر ما يخص فلسطين المحتلة، فكم من قرار لم يطبق؟ وكم من تمييز عنصري نشهده؟ وكم من أرواح أزهقت بأسلحة محرمة دوليا وغير محرمة؟ سوريا كلها تتجزأ بل تحترق وأهلها يشردون ليل نهار، وعراق احتل بغير شرعية أممية، وقد فُكك وفتت ويعاد ترتيب تفتيته بتعاضد طائفي بغيض تلاقت معه مصالح دولية، في وقت يعيش فيه مجرمو احتلاله طلقاء دون حسيب ولا رقيب، ولكن الظالمين لن يفلتوا من عقاب الله أبدا.
كل ذلك يتعاظم مع تعال صوت
الإسلاموفوبيا ضد الإسلام والمسلمين عالميا، تلك التي تحاك بأيد تغذي الكراهية ضد المسلمين القاطنين في الغرب، والتي لا نستبعد أن يتتلمذ عليها بعض النمور في شرق أسيا، بل أن يكونوا أساتذة في تنفيذ أبشع الجرائم ضد المسلمين، وهل ما نشهده من صمت أممي في حق إخواننا في رواندا ببعيد؟!
العالم يتغير بشكل واضح وجلي، فصعود اليمين المتطرف في عنصريته واضح، بدليل ما نسمعه في خطابات ترشح زعمائه في فرنسا والنمسا، وليس فقط في بلد وليد مثل سلوفاكيا ورئيس وزرائها الذي عضد حملته الانتخابية بدعوى حربه على المسلمين في بلاده بل الوقوف محذرا أوروبا من ولوج اللاجئين السوريين إليها. وفي هذا الخضم المتسارع من الأحداث نتذكر ما فعلته المراسلة الصحفية المجرية– ابنة الجارة الجنوبية لسلوفاكيا– منذ أشهر عديده من هتك كرامة لاجئ سوري. ربما يستدعي المشهد هنا شيئا من الاستدراك فيما إذا كان الموقف في دول أوروبا الشرقية أكثر رفضا للإسلام والمسلمين مقارنة بما هو عليه الحال في أوروبا الغربية؟
لقد ثارت ثائرة رئيس وزراء سلوفاكيا وخطط ونفذ ما وعد به شعبه حيال السملمين بقوله "لن نسمح أبدا بتكوين مجتمع مسلم في سلوفاكيا". فهل كان اللاجئون السوريون هم المعضلة أمام جزء من شعبه المسلم من أجل نيل حقوقهم التي شرعها لهم ربهم قبل الإعلان الأممي الحديث لحقوق الإنسان؟ أم هل هي البغضاء في الصدور ظهرت وترعرت بمجرد وجود الوسط الحيوي لها مثلما تفتك أنواع من البكتيريا بالخلايا التي حولها متى ضعفت مناعة تلك الخلايا، فلم تعد تجدي معهها المضادات الحيوية المتوفرة؟ ولكن أكون متشائما أبدا، ولن أقول إن هذا الفعل يصل إلى ترفيع حدة نوعية تلك البكتيريا مثل ما تفعله الخلايا السرطانية وهي تفتك بمن حولها من الخلايا السليمة، والسبب في عدم التشاؤم البتة قول الله عز وجل من حيث سننه التي لا يمكن أن تذهب أبدا: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ? إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47) ابراهيم
وقبل أن أختم، فلا بد من الإشارة إلى أن الدور المنوط بنا والمسؤولية حيال أهلنا المسلمين في سلوفاكيا لا بد أن يتفعلا على صعيدين؛ أحدهما دولي مثل منظمة المؤتمر الإسلامي وإن كان العالم الإسلامي غارق في وضع لا يحسد عليه؛ وعلى الصعيد الآخر في أوروبا قانونيا وأخلاقيا، وبكل حكمة وتدبر وسماحة من خلال المفوضية الأوروبية، ومن خلال منظمات المجتمع المدني والمنظمات الإسلامية في أوروبا التي ينبغي العمل معها والتعاضد من أجل حقوق شعب مسلم هو جزء لا يتجزأ من كيان دولة أوروبية ضمن اتحاده وتتمتع بحقوقه واقتصاده الذي أحد أركانه اليورو، والذي هو عملة سلوفاكيا نفسها التي سبقت في اعتمادها كعملة؛ مقارنة بجارتها الجنوبية "المجر" الأكثر عراقة منها.
وهنا نختم القول بأن قيادة العالم تتطلب؛ ليس فقط الحكمة والأمانة، بل معهما الحكم بالعدل حتى يعم السلم والسلام، فكم من قوة وامبراطورية انهارت بسبب الظلم والفساد؟ فهل نفعت مثل هؤلاء قوتهم؟ وهل ما نشهده اليوم من طغيان الظلم إلا ثمرة ضياع العدل وتسلط المصالح التي لا تقوم على أساس العدل والحكمة والأمانة في استخدامها للقوة. والحكمة تستوجب فهم الواقع بتفكر –والتفكر عبادة – والنظرة إلى رسالتك أيها الإنسان فردا ودولة وأمة، وذلك برؤية وأهداف تستطيع تحقيقها، فلا تجهل علم الأسباب والمسببات، ولا تجهل علم إدارة المخاطر بتحديدها وتحليلها وتوزيع أولوياتها، فلا تقعد ملوما محسورا، بل كيّس فطن فيتعاضد العدل والقوة والأمانهة، وخير ما علمتنا إياه إبنة نبي الله شعيب عليه السلام ولم نتفكر فيه جيدا، وذلك في قولها لأبيها عن موسى عليه السلام : (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ? إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)- (26) القصص.
وبعيدا عن الانفعال والعاطفة، فلا بد لصوت العقل أن يعلو بالحق، والعدل هو أساس كينونته.