كتاب عربي 21

كاسترو وتقليب المواجع والدفاتر (2)

1300x600
كان فيدل كاسترو، الزعيم الكوبي الذي توفي عن 90 عاما في 25 نوفمبر المنصرم، نموذجا للقائد الوطني الذي لا يحيد عن مبادئه، وعلى رأسها مناهضة الإمبريالية الأمريكية ومنازلتها حيثما كان ذلك ممكنا، وكانت القوات الكوبية هي التي نصرت ثوار أنغولا، في وجه تنظيم يقوده جوناس سافيمبي، الذي كان عميلا للنظام العنصري في جنوب أفريقيا، والحركة التي كان يتزعمها هولدن روبرتو بإيعاز من المخابرات الأمريكية كترياق مضاد للقوى اليسارية التي كان يقودها أوغستينو نيتو، لتحرير بلاده من الاستعمار البرتغالي.

كانت أميركا خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تتعامل مع شعوب العالم الثالث على أنهم مجموعات من الرعاع، الذين لا ينبغي أن تكون لها كلمة في شؤون الحكم في بلدانها، وهكذا دبرت انقلابات عسكرية في بنما وهندوراس والدومينكان وهاييتي والفلبين وإيران وتشيلي، وكانت هناك عشرات الأنظمة الديكتاتورية في مختلف أرجاء العالم تأتمر بأمر أمريكا.

وكان كاسترو عدوها الأكبر، بسبب قرب كوبا الجغرافي من دول أمريكا الجنوبية، التي كانت بمثابة الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، والتي نالت من فرط تبعيتها لواشنطن بلقب "جمهوريات الموز"، وما زال الأمريكان يتجرعون مرارة فشل محاولتهم لغزو كوبا مستعينين، بمهاجرين كوبيين يقيمون في ولاية فلوريدا.

بدا الغزو الذي شاركت في التخطيط له، ثم التنفيذ المخابرات المركزية الأمريكية، بإنزال جوي في مناطق مختلفة من كوبا، وغارات على المطارات الكوبية، بإسناد من سفن حربية أمريكية في 17 إبريل من عام 1961، ولكن الجيش الكوبي مسنودا بمليشيات شبه عسكرية تمكن من دحر الغزاة في غضون ثلاثة أيام، تم بعدها إعدام الرؤوس المدبرة للغزو، ودخلت تلك المعركة التاريخ بمسمى "خليج الخنازير"، وتعرضت الولايات المتحدة لإذلال غير مسبوق، عندما قايضت حرية 1202 من أسراها، بمواد غذائية بقيمة 53 مليون دولار تم تسليمها لكوبا.

وظلت واشنطن تحكم الحصار على كوبا طوال أكثر من ستين سنة، ولم ترفعه عنها جزئيا إلا قبل نحو عامين، وتتويجا لمساعي تطبيع العلاقات بين البلدين، قام الرئيس الأمريكي أوباما بزيارة كوبا في مارس من العام الجاري، ولكن ليس من المعروف ما إذا كان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، سيواصل سياسة التقارب مع كوبا، أم سينصاع لضغوط قوى اليمين الأمريكية، وينتهج سياسة معادية لها (ومن المرجح أن يهادن ترامب كوبا لأن له في عاصمتها هافانا فندقا ضخما تحت التشييد، وشخص يفكر بطريقة ترامب، تكون مصالحه الشخصية هي ذات الأولوية، كما أن اختياره لعدد من تجار الشنطة ذوي الباع الطويل في ميادين الصيرفة والتجارة مؤشر إلى أنه سيغلب المصالح التجارية على السياسية).

في مقابلة صحفية مع جين دانييل، في 24 أكتوبر من عام 1963، صرح الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي، الذي دبر الغزو على كوبا بـ"أنني أعتقد أنه ما من بلد في العالم بما فيها تلك الخاضعة للاستعمار شهدت أشكالا من الاستغلال والإذلال أسوأ من تلك التي عرفتها كوبا تحت حكم باتستا، ولهذا وافقت على ما أعلنه كاسترو في جبال سييرا مايسترا (التي انطلقت منها الثورة المسلحة) بأنه يهدف إلى إقرار العدالة ومحاربة الفساد، وبهذا كنت متوافقا مع الكوبيين الثوريين".

كان كيندي كاذبا في كلماته تلك، فقد حاول بها امتصاص الغضب العالمي على واشنطن لمحاولتها غزو كوبا، خاصة وأن معركة خليج الخنازير جعلت من كاسترو رمزا للنضال ضد الاستعمار المعلن والمستتر، تماما كما أن الحرب التي شنتها فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على مصر عام 1956، والتي عُرِفت بـ"حرب السويس"، جعلت من جمال عبد الناصر بطلا قوميا، فرغم أن الجيش المصري لم يكسب تلك الحرب، بل انتهت بإنذار من الرئيس السوفييتي بولغانين للشركاء في العدوان (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل)، وتحذير الدول الثلاث من العواقب أصدره الرئيس الأمريكي آيزنهاور، إلا أن المقاومة الشعبية الباسلة للغزو في مدن القناة وبخاصة في بورسعيد، جعلت تلك الحرب وساما على صدر عبد  الناصر، وفاز  بلقب "جمال بطل القنال".