جلس أمامي ثم سألني.. قهوتك؟
أجبته : سادة
قال: بُنُّكَ المُفَضَّلُ؟
قلت: هيهات أن تصل إليه.. قل لي ما عندك وسأختار
قال: عندي مخازن من البن فيها ما تريده
قلت: أريد بنا يمنيا "يافعيا"، أو "مطريا"، أو "عدينيا"
قال: لك ما تريد
قلت له: هل عندك شيء من الهيل؟ والمستكة؟ وورق الورد؟ وجوزة الطيب؟
قال: عندي.. أعطني المقادير
قلت: هي سر مكنون ... لا أمنحه لحبيب ولا قريب ... فكيف بمن لا أعرف حتى الآن إن كان عدوا أم صديقا؟!
قال: أنا عام جديد.. آتيك فاتحا ذراعيَّ.. فتركلني هكذا؟ ما ذنبي؟
قلت: قالها قبلك أعوام وأعوام.. وما رأينا منها إلا السواد، احمد ربك أنني سأعد لك قهوة متقنة، بدلا من تلك القهوة السيئة التي كنت تنوي معاقبتي بها!
قال: لا تكن ناكرا للخير، أتتك قبلي أعوام بالسعادة والخير أيضا
قلت: ولكن العام الذي سبقك كان عام صعبا!
قال: لا تنكر ما فيه من خير أيضا.. ألم تكن في اسطنبول ليلة الخامس عشر من تموز؟ ألم تعش تلك الليلة وسط الجماهير؟
قلت: صدقت ... ولكنها ليلة!
قال: ليلة كان فيها ما فيها، وكان بعدها ما بعدها.. قم أعد لنا فنجان القهوة لكي يحلو السمر
قلت: سأفعل.. ولكن إياك أن تحلم بمعرفة سر تحويجتي.. حتى لو راقبتني لن تدرك أسرارها.. وكيف يدركها من هو في يومه الأول في الحياة؟!
قال: المهم أن نشرب القهوة المتقنة
قمت.. حمَّصت البن حتى اقترب لونه من السواد، فاحت الرائحة حتى استغاثت غدد المزاج، أعددت الخلطة، بدأت بالطحن، رائحة الهيل والبن تتعانقان كراقصي باليه، نار الـ"سبرتاية" الهادئة تحتضن بكرج النحاس وفي داخله المشروب السحري، كأن النار يد دافئة تحتضن يد حبيب في برد آخر ليالي ديسمبر، فيسري فيها دفء الحب قبل دفء الجسد.
يقول لي العام الجديد: لم تسألني عن سكر قهوتي؟
قلت له: قهوتك سادة.. هذا حكم عليك، أما وقد جالست شاربا حكيما فقدرك أن تشرب قهوته، والشارب الحكيم يشربها سادة، وقد يشربها على الريحة إن رغب في بعض التغيير!
قال لي: سأشرب قهوتك.. سادة.. مع أول لحظات ميلادي.. وكيف أشربها سكرية وأخي يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام عينيّ؟ ولكن قل لي.. ماذا تريد مني؟
قلت له: لا أريد سوى أن تكف شرك عنا يا هذا.. لقد ذقنا الويل عاما بعد عام!
قال: ومن أنا كيف أكف عنكم شري؟ ومن أنتم بالتحديد؟
أجبته: أنت القادم بعد أن أرهقنا الظالمون بشر مستطير لم نحلم بمثله أبدا، ونحن المظلومون في
مصر والشام والعراق وليبيا واليمن وميانمار وبنغلاديش.. وفي كل أرض الله!
حمل فنجانه ثم ارتشف رشفة سريعة.. أغمض عينيه ثم قال: يا إلهي.. من أي جنة جئت بهذه النكهة يا هذا؟ سأدمن قهوتك بهذه الطريقة!
قلت له: ما زلت عاما وليدا.. لو أدمنت قهوتي ستتعب ما بقي لك من عمر، وما أقصر عمرك
ابتسم ثم قال: لو كان الأمر بيدي لتناولت قهوتك هذه كل صباح.. ولكن يبدو أنني ضيف غير مرحب به عندك.. حتى الآن لم أسمع منك كلمة مبهجة
شعرت بشيء من الإحراج فقلت له: يا أيها العام الجديد.. لقد منحتك قهوتي من بني الخاص، وتلك منزلة عالية، وحسن ظن لا أمنحه لأي أحد، ولا أطلب منك سوى أن تكف شرك عنا والله
نظر إلي ثم قال: أنت تطلب المستحيل يا صديقي.. أنا الماء وأنتم السفينة والشراع والملاح والربان.. لا تلمني.. بل أصلح سفينتك وما ومن عليها
قلت له: ماء البحر يغرق السفينة.. كف عواصفك وأعاصيرك عنا يا أيها البحر الهائج
قال: والله إن سفنكم لتغرق واحدة بعد أخرى في طقس صحو لا ريح فيه ولا ضباب ولا عواصف.. العيب في قبطانكم.. سفنكم فيها ألف خرق وخرق، ما زلتم تختارون أسوأ وأغبى الناس ثمن تضعونهم في القيادة، وبعد ذلك تشكون وتقولون (لقد كان عاما أسود)!
قلت له بغضب: وما يدريك؟ أنت عام جديد.. ما زلت في مخاض.. لم تولد بعد.. فأنى لك أن تعلم عما فعلناه من قبلك؟
قال لي: كل عام يأتي يحكي لمن بعده تفاصيل ما جرى فيه، وخلاصات ما حدث لمن قبله من أعوام.. أم تراك تحسبني صفرا من العلم والمعلومات؟
قلت له: ولكننا ثرنا.. وغيّرنا
قال: أحسنتم.. أخبرني بذلك أخي الكبير 2011، ولكن يبدو أنكم الآن في انتكاسة، ويبدو أن داء اليأس أصاب كثيرا منكم، مع أنني لا أرى سببا منطقيا لذلك.. لقد جلست مع أخي 571، إنه عام ميلاد نبيكم محمد، وقد أخبرني كيف كانت مسيرته، وجلست أيضا مع أخي 632 وهو عام وفاته، وأخبرني كيف رحل عن الدنيا بعد أن انتصر، وكان مفتاح ذلك أنه لم ييأس أبد!
قلت له: عليه الصلاة والسلام.. قل لي إذن.. ماذا تخبئ لنا في معطفك ذي الاثني عشر جيبا؟
قال: بل ماذا أعددتم من عمل ستعملونه خلالي؟ أنا الماء.. من يتقن السباحة يجتازني.. ومن لا يتقنها يغرق.. قانون الطفو معروف.. المشكلة فيكم
قلت له بسخط: أخبرني عما تتوقعه إذن!!!
ابتسم ثم قال: أنا عام يمكن أن أكون أفضل بكثير من أخي الذي سبقني، ويمكن أن أكون أسوأ بكثير منه.. أنتم من سيحدد ذلك.. أعني المصريين.. لو توحد الثوار المصريون فسوف تذكرونني دائما بالخير، وستكتبون عني في كتبكم التي تسمونها كتب التاريخ بحب وتقدير.. ولكن إذا ظللتم متفرقين
قلت له: ماذا سيحدث؟؟
قال غاضبا: سأكون أسوأ ممن جاء قبلي، وأخي التالي الذي لم يولد بعد سيكون أسوأ مني، ومن بعده سيكون أسوأ وأسوأ.. لا طريق أمامكم إلا أن تتحدوا
قلت له: ولكن هل تعتقد أن ذلك ممكن؟
قال لي وقد ارتشف آخر رشفة في الفنجان: اتحادكم قريب، احذروا السفهاء، ونقوا صفوفكم ... واعلموا أن أحداثا جساما في انتظاركم، لم تروا مثلها قط، ولم تشهدها بلادكم من قبل.. سيأكل الحديدُ الحديدَ، وستلتهم المدافعُ المدافعَ، وسيسلط الله جنودا على جنود.. وفي تلك اللحظة سيكون اختبار اتحادكم، فإما أن تقتحموا العقبة، وإما أن تدخلوها زمرا!
قلت له: والله لا أدري أبشير أنت أم نذير؟ حامل مسك أم نافخ كير؟
قال: لو كان بيدي أن أقول أكثر لقلت ... عندي طلب صغير ... هل أطلب؟
قلت له: قل
قال بخجل: هل أطمع في قليل من بنك هذا آخذه معي، أتقوى به على رحلتي التي سأبدأها بعد سويعات؟
قلت له: سأعطيك قليلا من البن.. لن يكفيك في رحلتك.. لكي تعود إليّ مرة أخرى.. ومن يدري لعلك تعود بخبر سعيد
قال لي: لن أعود إليك إلا بخبر سعيد.. سأجتهد في ذلك لكي تعطيني مزيدا من هذا البن السحري
أعطيته البن.. وودعته عند الباب.. مشى خطوات ثم نظر إلي وقال: عاما سعيدا يا صاحب البن
قلت له بصوت عال: اتقي الله فينا
وحين انصرف قلت بصوت خفيض: اللهم قنا شره وأعطنا من خيره
كل عام وأنتم بخير
عبدالرحمن يوسف
موقع إلكتروني: www.arahman.net
بريد إلكتروني: arahman@arahman.net