قضايا وآراء

العالم على جناح غراب

1300x600
لم يضف التقرير الذي أصدره "مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكية"، المفعم بالخوف من التوجهات العالمية، الجديد إلى حالة القلق السائدة عالميا من السياسات المنحرفة التي تنتهجها مراكز قوى إقليمية ودولية، ذلك أن التقرير يميل إلى وصف الواقع الذي يعرفه الجميع ويتابع مساراته وتطوراته ويرصد تأثيراتها على نمط حياته، تماما كمثل الذي يتابع يوميات البورصة صعودا ونزولا.

تتميز اللحظة العالمية الراهنة بانفتاحها على كل الاحتمالات السلبية، وهي لحظة ولّادة لمصادر خطر كبيرة، وإذ يبدو أن اتجاهات الأحداث خارجة عن أي إمكانية للضبط، كما أن إدارة التفاعلات في داخلها تجري بأسلوب يقوم على حساب الأرباح من الكوارث وليس نتيجة الاستثمار في بيئات آمنة وفي ظروف طبيعية، وهكذا تقوم العولمة مثلا على تحقيق أرباح فائضة للطبقات العليا على حساب الكوارث المحقّقة لدى فئات وشرائح واسعة تشكّل غالبية البشر، وتقوم روسيا بتحقيق تقدم على مستوى مكانتها العالمية على حساب نكبة ودمار شعوب أوكرانيا وسوريا، كما تعمل إيران على تحقيق ربح في نفوذها الإقليمي جراء تدمير النسائج الاجتماعية والوطنية في المشرق العربي.

غير أن الإضافة الأخطر على هذه الخريطة تتمثّل بالتطورات الحاصلة في رأس هرم النظام الدولي، الولايات المتحدة الأمريكية، والتي رغم كل مساوئ إداراتها، اعتبرت إلى حين قوّة ضابطة للصراعات في العالم ومحدّدة لتوجهاتها، إلا أن هذه القوّة ظهرت في الآونة الأخيرة واحدة من أكبر صنّاع مصادر الخطر في العالم، سواء بقصد أو من دونه، وذلك عبر تخليها عن الأدوار التي قاتلت من اجل الحصول عليها وأعادت هندسة العالم وفق رؤيتها لضمان تحقيق سيطرتها، وبتكاليف عالية لم تدفعها وحدها بل شاركت كل الأقاليم والمناطق التي وقعت في مجال التأثير الأمريكي في دفعها، ثم وفجأة تنسحب أمريكا من هذا المعمار تاركة مساحات واسعة فيه لعبث قوى غير مسؤولة وغير قادرة بالأصل على إدارتها بشكل جيد.

تعاملت إدارة أوباما مع العالم بوصفه كمينا لأمريكا يستنزف طاقاتها ويهدد حياة جنودها، وخلصت إلى مقاربة عجيبة تقوم على تبسيط القضايا إلى أبعد درجة، فالشرق الأوسط ليس أكثر من بئر نفط تنتفي الحاجة له مع توفّر بدائل للطاقة في أمريكا، وشرق آسيا مجرد أسواق للبضاعة الأمريكية ومركز إنتاج للبضائع الرخيصة يجب حمايتها من التهديد الصيني عبر استعراض سفن الاسطول الأمريكي في بحر الصين الجنوبي، وروسيا مجرد لاعب إقليمي يكفي نشر لواءين من مشاة الناتو لردعه عن التقدّم صوب دول البلطيق، أما إيران فإن المهم فيها هو مشروعها النووي، في حين أن مشاريعها الأخرى لا تشكّل خطرا مؤكدا على أمريكا ومصالحها.

سمح هذا الانحراف من قبل رأس النظام العالمي، بصعود توجهات ونزعات خطيرة على مستوى الدول وحتى الفاعلين الأقل من الدول، منظمات وأفرادا، حيث اعتقدت هذه الأطراف أنّها أمام فرصة لتحسين مكانتها وتحصيل المزيد من السطوة والنفوذ، فعلت ذلك بشكل فوضوي ومدمّر، نتيجة تسرّعها في تثبيت مواقعها الجديدة وتحصيل المزيد، ونتيجة ضعف خبرتها في التعامل مع إدارة الأزمات وإدارة العلاقات بشكل عام، وفي زمن الإدارة الجديدة برئاسة دونالد ترامب، من المتوقع أن تواصل تلك القوى الفوضوية نشاطها، بل من المرجح أن يزداد زخم اندفاعها مع رئيس نزق منفعل لا يعتمد على التخطيط ويتصارع مع مؤسسات بلاده، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من الانحراف في قيادة النظام الدولي، وقد ينتهي باتجاه أمريكا إلى العزلة في ظل ذهنية الحسابات والتكاليف التي تسيطر على طريقة إدارة علاقات أمريكا بالعالم، وهذا بلا شك سيكون مؤشرا للقوى الفوضوية في العالم إلى التسابق من أجل ملء المساحات التي ستخرجها الولايات المتحدة الأمريكية من اهتماماتها وأولوياتها الاستراتيجية.

وتقع منطقتنا، الشرق الأوسط، في قلب تلك المناطق المرشّحة لحصول مزيد من الفوضى والخراب، إذ يقدّر تقرير "مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكية" استمرار الصراع السني – الشيعي إلى ما بعد عام 2035، بل ويذهب أحد مواقع التحليل والمعلومات الاستخباراتية الأمريكية إلى توقّع أن يتم تفكيك منطقة الشرق الأوسط إلى قطاعات، على النحو الذي حصل في البلقان في تسعينيات القرن الماضي، بحيث تتولى دول بعينها المسؤولية عن إدارة كل قطاع على حدة.

لا شك أن المشهد العالمي يتغير بشكل جذري نتيجة تآكل نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية والنزعات القومية الناجمة عن معاداة العولمة وصعود قوى التطرف والانعزال، لكننا في إطار خريطة هذه التغيرات لا نلمح دورا عربيا إلا في مواقع الخاسرين وفي خرائط تمدّد النفوذ الدولي والإقليمي، والواضخ أن العالم العربي ذهب هباء يوم قتلت أنظمة القهر ربيعه.