في كل مرة تحلُّ الذكرى السنوية لـ"ثورة الياسمين" يتوقف التونسيون للتساؤل عن الحصيلة وآفاق التطور، ولأن الثورة، بطبيعتها، مشروع من أجل التغيير والتقدم نحو الأفضل، فإن الغالب في أسئلة المواطنين ما يتعلق بأوضاعهم الاجتماعية ومستقبل أحوالهم، وإلى حدّ ما التطور السياسي لحقوقهم وحرياتهم ، وأداء مؤسساتهم. ولأن الثورة، من جهة أخرى، لها أنصار ومعارضين، فإن الجدل غالبا ما يكون متبايناً ومتنافراً حول ما تحقق، وما لم يتحقق، وما يعتبر في حكم المستحيل من حيث الإنجاز والإدراك.
لم تشذ ذكرى هذا العام، وهي السادسة بعد سقوط النظام (2011 ـ 2017) عن سابقاتها، من حيث النقد، والتشكيك، وموجة الاحتجاجات، التي عمّت ربوعاً واسعة من التراب التونسي، وفي مقدمتها مناطق الظل، وبؤر التوتر الاجتماعي، من قبيل مناطق ومُدن "سيدي بوزيد"، و "ابن غردان"، و"الشمال الغربي"، وحتى العاصمة تونس وتخومها..أما مصادر ذلك فمردّها إلى الشعور بخيبة الأمل Desenchantement "من مسار "الثورة" ومآلها.
تجدُ خيبةُ الأمل تفسيرَها في أن شعارات "الثورة" ومطالبها لم تقع الاستجابة لها بما يكفي من الفعالية والإنجاز، وأن واقعَ الحيف، وضعف منسوب العدالة الاجتماعية، وضيق الاطمئنان إلى المستقبل ما زالت من الثوابت التي تطبعُ عيشَ هذه المناطق وغيرها من المدن والحواضر، وأن الحكومات المتعاقبة في تونس منذ سقوط النظام ) 2011(، التي فاق عددها الستة، لم تُحقق ما يُقنع المواطنين بأن بلدهم يتحرك نحو الأفضل، وأن " الثورة" سائرة في طريق سالِك. وأن واجبهم الوطني يدعوهم إلى الانخراط الكامل في مسيرة التغيير. والحقيقة أن " ثورة الياسمين" التونسية عاشت زمنين متكاملين، لكن يبدو أنهما أصبحا متناقضين: زمن إعادة بناء شرعية الدولة (المؤسسات) والسلطة، وزمن تدعيم البناء السياسي بالبناء الاقتصادي والاجتماعي. فإذا كان البناء الأول قد أنجز حلقاتِه الأساسية، من ضمان استمرار الاستقرار والسلم، والتوافق حول صياغة دستور تعاقدي، ووضع مؤسسات جديدة عبر صناديق الاقتراع، فإن البناء الثاني (الاقتصادي)، ظل عصيّاً، وما زال مترنحاً حتى اليوم، وربما لن يأخذ طريقه إلى الانطلاق السليم في الزمن المنظور، لاعتبارات عامة ، لها صلة بظروف الداخل، وتعقيدات السياق الإقليمي والدولي.
يصعب الحكم على "الثورة" التونسية من زاوية التحقيق السريع للمكاسب، وتحديداً المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، بل يجب موضوعيا النظر إليها من منظور أوسع وأعمق، يأخذ بعين الاعتبار كل المصادر المفسِّرة لمسار "الثورة" التونسية ومآلاتها. فالثورة، بما هي مشروع للقطع مع وضع وبناء آخر بديل عنه، يتطلب وقتاً معقولاً للاستقرار والاستمرار وإعطاء الثمار المنتظرة، والحال أن الثورات الكبرى في التاريخ تمدّنا بما يُثبت صحة هذا المُعطى (الوقت الكافي للاستقرار) . كما أن الثورة الناجحة، تستلزم سياقًا وبيئة جاذبين غير نابذين، علاوة على ضرورة توفّر نخبة قائدة ممتلِكة كل متطلبات القيادة الناجحة والخلاقة. لنلاحظ مثلا كيف تصارع الفرنسيون قرابة قرن من الزمن (1789ـ 1879)، كي يبنوا توافقَهم حول النظام الجمهوري ومنظومته، ولننظر إلى كيف انهارت المنظومة الاشتراكية، مُجسَّدة في الاتحاد السوفييتي، بعد تجربة كبيرة عمّرت قرابة ثمانين سنة (1917 ـ 1989)، دون أن ننسى اختلاف ظروف المثالين معاً مع حال "الثورة" التونسية وسياقاتها.
لكن ليس منطقيا، بالمقابل، تعليق كل تأخر في إنجاز مطالب "الثورة" على عامل الوقت أو الزمن، فالعملية أعمق من هذا، حيث يُفترض أن تأخذ بعض القضايا المعبرة عن روح "الثورة" طريقَها إلى الإنجاز كي تُذكي شعور المواطنين بالرضا، وتولد لديهم الولاء المطلوب لشعار التغيير الذي بشرت به ثورة الياسمين". فمثلا، لم تفلح الحكومات التونسية المتعاقبة في ردم الفجوات المجالية التي طبعت البناء الترابي التونسي، وعجزت عن إعادة إدماج مناطق التهميش والإقصاء الاجتماعي والفقر الفردي والجماعي في النسيج الاقتصادي الوطني. ثم إن معدلات العطالة في صفوف الشباب والنساء وحاملي الشهادات ظلت مرتفعة، كما أن كتلة الأجور لم تعرف التصاعد في الزيادة التي عرفتها كلفة المعيشة، ناهيك عن هروب الاستثمارات الأجنبية، وعدم انسيابها إلى السوق الداخلي، وتواتر تقلص الوافدين من السياح إلى البلاد التونسية.
إنها في مجملها بياضات لم تَقدِر الحكومات المتعاقبة منذ سقوط نظام "إبن علي" على تجاوزها، بكتابة إنجازات حقيقية على صفحاتِها، وهذا ما يُدعِّم رصيدَ المشككين في "الثورة" التونسية، أو المتنصِّلين بوعي منها. ومع ذلك، لابد من التأكيد على أن الحالة التونسية شكلت مثالاً مميزاً بالنسبة لنظيراتها العربية، التي إما تغير مسارُها جذريا وبشكل سلبي، أو قادت بلدانها إلى آفاق مروِعة من حيث التدمير والتقتيل الجماعي، ولا يبدو أنها ستجد سبيلها إلى الاستقرار في الزمن المنظور. ولعل تميزها الواضح أنها حافظت على البلاد متماسكة وآمنة، وقادت حواراً متحضراً بين مكوناتها السياسية أفضى إلى صياغة دستور متوافق حول فلسفته وقواعده، وضمنت إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية أرست المؤسسات الجديدة، والأهم أزاحت هاجس الرعب والخوف من نفوس الناس، وأطلقت ألسنتهم للتعبير عما يشعرون به.. هل يكفي هذا؟.
الجواب طبعا بالنفي، ستعود الثورة إلى الوراء إذا لم تُنجز زمنها الثاني، أي البناء الاقتصادي والاجتماعي، والحال أنه أمر مرتبط بإرادة النخبة السياسية التونسية ودرجة ذكائها الخلاق، ليس هذا وحده كافيا، تحتاج تونس، علاوة على ذلك، إلى بيئة إقليمية سليمة ومُشجعة، وسياق اقتصادي ومالي دولي داعم لها.. إنها عناصر التعقيد في معادلة التغيير في تونس.