كتاب عربي 21

هندسة الفوضى في مجال الثورات

1300x600
العبارة السائدة اليوم لوصف الحالة العربية مشرقيا ومغربيا هي عبارة "الفوضى" وقد تواترت في الأدبيات الإعلامية منذ الانتكاسات الأولى لثورات الشعوب التي اشتهرت اصطلاحيا باسم "ربيع العرب". انتشار الحروب والأزمات وانتشار الظاهرة الإرهابية والاقتتال الداخلي والتدخل الأجنبي والتمدد الاستعماري كلها تجليات من تجليات الفوضى التي تأخذ في التصاعد بشكل خطير يوحي بأن المنطقة العربية قادمة على واحدة من أكثر مراحلها التاريخية حساسية وخطورة. 

تدل الفوضى في المعجم على اختلال في أداء وظائف ومهام جسم ما وافتقارها إلى النظام. فالفوضى هي دلاليا الحالة المعاكسة للنظام أو هي تحديدا انعدام لوجوده أو انعدام للتوازن في مكوناته. أما النظام فهو التناسق في أداء الوظائف بشكل منظم للأجزاء المكونة للجسم أو الهيكل أو البنية بشكل عام. النظام السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والمالي هي وحدات من أشكال البنية الداخلية للنظام العام للدولة والأمة أي أن النظام لا يقتصر على الشكل السياسي بل يتعداه إلى كل الأشكال الموجدة للدولة والمؤسسة لها. بناء على ما تقدم فإن وحدات  النظام السابقة هي نفسها وحدات الفوضى أي أن الفوضى تنقسم بحسب مجالها إلى فوضى اجتماعية وفوضى اقتصادية وفوضى أمنية وفوضى سياسية ... أي أن الفوضى العامة هي في الحقيقة فوضى تصيب الأجزاء المكونة للنظام قبل أن تصيب كامل بنية النظام.

ما نشهده اليوم على امتداد الخارطة العربية من درجات الفوضى التي تمتد من انعدام التوازن أو اختلاله مثل تونس إلى الفوضى العارمة مثل مصر إلى حدود حروب الإبادة مثل سوريا هي في الحقيقة ردود أفعال داخلية وخارجية على الثورات الشعبية التي عرفتها هاته الدول والتي أطاحت برأس الأنظمة الاستبدادية فيها. بناء على التعريفات السابقة فإن بلوغ الفوضى أجزاءَ كبيرة من المنطقة العربية مشرقا ومغربا بدرجات متفاوتة ينبئ بأنها ستمتد لتشمل بقية المنطقة إن لم تتحرك بقية الأطراف من أجل منع تمدد الفوضى ومحاصرتها وذلك بمحاربة شروط انتشارها. إنّ الفوضى التي نرى لن تقتصر على الدول العربية التي عرفت ثورات سلمية مهما كانت مخارجها بل إنها تلقي بتداعياتها على الدول العربية الأخرى لأنها جزء من كامل النظام العربي في المنطقة وليست الحرب الدائرة في اليمن والتي تعمل على استنزاف المملكة السعودية إلا جزء من تنقل الفوضى وامتدادها.

لكن السؤال الأساسي الذي يمكن أن يطرح هو البحث في طبيعة نشأة الفوضى أو بتعبير أكثر دقة في صناعة الفوضى أو في كيفية خلقها. يتضمن هذا الاستفهام حقيقة مفادها أن الفوضى تقع بين الطبيعي والصناعي أي أن هناك فوضى طبيعية وفوضى صناعية. الشكل الأول للفوضى ينبع من داخل النظام نفسه أي من داخل البنية المكوّنة للجسم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي... بشكل عام أما الشكل الثاني فينبع من خارج البنية بشكل يحرك معها فواعل موجودة في داخل البناء. الفوضى الصناعية تخلق شروط الفوضى داخل البنية التي تستهدفها مستفيدة من غياب الحصانة والمناعة الذاتية للجسم المستهدف فتزرع فيه العناصر التي ستتطور لتكون شروط الفوضى في المستقبل.

بناء على ما سبق يطرح السؤال الأكبر: هل أنّ الفوضى التي نراها ونعيشها في المنطقة العربية هي فوضى طبيعية أم بالعكس هي فوضى صناعية؟ ثم لماذا حدثت هذه الفوضى في هذا التوقيت بالذات وتزامنت مع ارتداد الثورات وصعود الثورات المضادة؟

الملاحظة التحليلية الأولى هي أنّ الثورات المضادة هي نفسها جزء أساسي من ظاهرة الفوضى أو بأكثر دقة هو أن الفوضى تمثل سلاح الثورة المضادة لضرب الثورة والمسار الانتقالي ومحاولة إعادة النظام القديم الذي ثارت عليه الشعوب وأسقطته.

الفوضى بناء على هذه القراءة ليست غاية في ذاتها بل هي وسيلة وآلة وأداة لتعطيل مسار أو لتوجيهه وخلق مسار جديد يوصل إلى الهدف الأساسي من وراء صناعة الفوضى.

البرهان الذي يزكي هذه القراءة وهذا التأويل هو المعجم السياسي نفسه لمصطلح الفوضى. فتركيب "الفوضى الخلاقة " الذي استعملته وزيرة الخارجية الأمريكية رايس في حديث صحفي يعبر عن الطابع الوسائلي للمفهوم. الفوضى فاعل قادر على الخلق فهو خلاّق والفوضى خلاقة باعتبار قدرتها على تحويل وضع ما إلى وضع آخر بعد المرور بحالة الفوضى نفسها.

الفوضى ليست وفق هذا المعجم السياسي نتيجة ونهاية وغاية فالفوضى للفوضى أو الفوضى من أجل الفوضى لا معنى لها بل هي أداة تُصنع وتُخلق شروط نشأتها وتمددها فتصبح هي بدورها منشِئة وخالقة لغيرها من الأطوار في بنية سياسية أو اجتماعية أو حضارية ما.

إن ما نشهده اليوم من خلل أمني واقتصادي واجتماعي وعقائدي وسياسي ليس إلا أداة لخلق طور جديد للأمة تتحدد خصائصه ويتحدد مصيره بمنسوب المناعة الحضارية للشعوب والأوطان. إن نجاح الشعوب العربية في تجاوز حالة الفوضى وإن قدرة الأنظمة العربية على الحد من منسوب الاختلال البنيوي هو الوحيد القادر على تحديد مسار الفوضى الخلاقة وتوجيهه لصالح شعوب المنطقة ولصالح تطلعاتها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.