سفينة الحمقى هي أسطورة مغلفة بالواقع، ولا نستطيع الحسم فيما إذا كنا خرجنا من أسرها أم لا، ويقول ميشيل فوكو في كتابه تاريخ الجنون، إن سفينة الحمقى كانت حقيقة حيث يطرد "المجانين" خارج المدن، ويشحن بعضهم بالسفن، والبعض الآخر يتوه في البراري، فالسفن كانت تنقل شحنتها الجنونية من مدينة إلى أخرى، ويبقى "المجانين" في حالة التيه أبدا.
ويمكن اعتبار الجنون إحدى حالات الإقصاء من المجتمع، وهي حالة ليست بالضرورة طبية، وحتى لو كانت طبية، "فالسلطة الطبية، بل كل السلطات، لا تستطيع فك إسارها من أحكام مسبقة هي وجهه وحقيقته ووضعه".
وتوصيف الجنون لم يكن ثابتا عبر التاريخ، ولكنه إحدى أدوات السلطة لضبط المجتمع، تماما كالسجن أو المدرسة أو المعسكر، وبقدر ما هو حالة طبية هو حالة "أخلاقية" مناهضة لشيء ما مرفوض في المجتمع أو السلطة. وغالبا ما يكون تفسير الجنون متوافقا مع إرادة السلطة.
وحتى الآن، ما زال تعريف الجنون في معظمه وغيره من أدوات الضبط يتغير من مجتمع إلى آخر، تماما كما هي الجريمة والأخلاق.
بالتأكيد ليس هذا نفيا للجنون، ولكنه تأكيد على أن ما يُمَارس تحت مظلته أكثر كثيرا من مجرد الاضطراب العقلي أو النفسي، وأنه إحدى أدوات الضبط التي ليس لها علاقة بالحالة العقلية.
نعود إلى سفينة الحمقى التي كان يشحن بها المجانين، فهي رمز أكثر منها ألواحا خشبية، فكل زمان ومجتمع به سفينة ما للحمقى تحاول السلطة أو تيار ما دفع كل من يخرج عن النظام إليها.
قد تكون سفينة الحمقى تحت يافطة ما أو دين ما أو لون ما لا يهم، المهم أن لكل مجتمع سفينة حمقاه، وفي الغالب من يحدد ملامح تلك السفينة هي السلطة الحقيقية.
نتذكر ما فعلته نخبة فاسدة مع الدكتور محمد
مرسي قبل الانقلاب العسكري من محاولة التشكيك في سلامته العقلية، فهي محاولة لاستخدام الجنون لأغراض السلطة التي ترى عداء مباشرا في شخص ما تجاهها، فتبدأ في استخدام أدواتها كافة للضبط، فاستخدمت أدوات الضبط الناعم كالسجن في قضية وادي النطرون وما تلاها من قضايا هلامية، واستخدمت أيضا سلاح الاتهام بالجنون، واستخدمت أدوات الضبط الخشن من الجيش والشرطة، أي أنها استخدمت أدوات الضبط كافة لديها في معركتها الوجودية.
إن خطورة أدوات الضبط بعمومها، أنها تكون مختبئة خلف ستار أخلاقي، أو على الأقل هذا ما يحاول مالِكو تلك الأدوات إقناعنا به، وتكون أكثر تأثيرا في تلك الحالة.
أما إذا ما انتزِعت منها تلك الهالة الأخلاقية المُتَخَيَّلة؛ فتفقد الكثير من قيمتها، خاصة أدوات الضبط الناعم، وتضطر السلطة إلى الاستخدام العنيف للضبط الخشن الذي يسقط بدوره في كمين فقدان الستار الأخلاقي.
إن الحديث هنا ليس بشكل رئيس عن الدكتور مرسي، ولكنه حول بداية استخدام فكرة الجنون مع دونالد
ترامب، فقد بدأت مقابلات تتحدث عن خلل نفسي أو عقلي ما في الظهور، ومع وجود يقين -على الأقل بالنسبة لي- بأن الاتهام بالجنون ليس بالضرورة طبيا، ولكنه ربما يكون فوكويا نسبة لفوكو.
ومع الصراحة البالغة التي يتعامل بها ترامب مع الأمور كافة، ومع أنه منتخب بغالبية أصوات المجمع الانتخابي أيضا، ومع كونه رجلا تجاوز السبعين ومن أغنى رجال أمريكا؛ فكيف لم يكتشف أحد جنونه بهذا الزخم العالي إلا عندما أصبح في دائرة السلطة؟
صحيح كانت بعض الأصوات تقول ذلك قبل فوز ترامب مخالفة للقواعد الأمريكية، كما وصف ديفيد بلوف مستشار أوباما ترامب بأنه مضطرب نفسيا، ولكننا يمكن اعتبار ذلك في مسار ضبط السلطة ذاته، حيث أنها كانت في فترة انتخابات الرئاسة الأمريكية.
وتجدر الإشارة إلى عدم سماح القوانين الأمريكية بوصف الشخصية العامة بأي مرض نفسي إلا بتقارير علمية، وبعد موافقة الشخص نفسه، فلماذا يفعل بعض الأمريكيين ذلك، ولماذا لا يعترض أحد؟
لست هنا بالتأكيد في مجال الدفاع عن ترامب، أو تأكيد أو نفي ما يقوله البروفيسور جون كارتنر عالم النفس الأمريكي، في إحدى أشهر جامعات أمريكا، ضاربا عرض الحائط القواعد القانونية كلها وربما العلمية أيضا، ولكن المشكلة في السياق العام وحالة الغموض غير الطبيعي التي تسيطر على المشهد.
فنحن نسمع فقط جانبا واحدا يملك ميكروفونا بصوت عال، ولا نسمع هؤلاء الذين انتخبوا ترامب، أو هؤلاء الأقوياء الذين يتحركون علنا أو خفاء معه.
فنحن نرى تعديا صارخا على قواعد قانونية من طرفي الأزمة في بلد المؤسسات والقانون، كما نعرف، أو كما يبدو.
فهل هو صراع بين المجتمع ومؤسساته مع رئيس انتخبه منذ أسابيع رأى أنه أخطأ؟ ولكن عن أي مجتمع نتحدث؟ هل عن أصحاب الميكروفونات، وهم جزء من أصحاب السلطة، أم الذين انتخبوا ترامب؟
هل يحاول "المجتمع" وضع ترامب ومؤيديه في سفينة الحمقى الجديدة؟ ومن هو هذا "المجتمع" الذي يحاول ذلك؟ هل سيتجاوز النظام الديمقراطي أزمته الحادة، أم أنه كما يقولون قادر على عبور الأزمة دون استخدام سفينة فوكو الزائفة للحمقى، وليست سفينة برانت للحمقى الحقيقيين؟
أم أن كل هذا الصخب هو الموسيقى الافتتاحية لعرض يوشك أن يخرج من خلف ستار المسرح؟