في مطلع الأسبوع الماضي، وجهت النيابة العامة الألمانية إلى عراقي اسمه رامي، لجأ إليها في أواخر عام 2015، تهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والتهمة ثابتة على رامي الذي كان جنديا في الجيش العراقي، لأنه قام بنفسه بنشر دليل إدانته في فيسبوك، وكان هذا الدليل رأسين مقطوعين لمقاتلَين اثنين من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كان رامي ممسكا بهما من شعر الرأس، ليلتقط له زميل له الصورة.
وسنذكِّر إن نفع التذكير، بأن ألمانيا غارقة لشوشتها في الحرب ضد داعش، وعانت ما عانت من هجمات عشوائية، قام بها أشخاص محسوبون على داعش، أدت إلى هلاك العشرات من المواطنين الألمان، والحرب حرب، وممارسة القتل خلاله مشروع في جميع الأعراف والتقاليد والملل والنحل، ولكن ألمانيا "الكافرة" هذه، لا تقبل أن يستغل شخص أيَّا كانت جنسيته وانتماؤه السياسي أو العرقي، الحرب على داعش ليتباهى بالتمثيل بجثث الدواعش.
وبتوجيه تهمة ارتكاب جريمة في حق الإنسانية للجندي العراقي السابق، تريد ألمانيا أن تؤكد أن مقاتلي داعش في التحليل الأول والأخير، أوادم. بشر، ولا يجوز لكائن من كان أن يتعامل مع أمواتهم بما ينتهك حرمة أجسادهم: اقتلهم في أرض المعركة، ولكن لا تكن حقيرا وضيعا قذرا، بأن تحمل رأس ميت منهم في يدك، وأنت مبتسم، ثم تسجل ذلك المشهد بالكاميرا، وبعدها تنشر الصورة على الملأ، وأنت تحس بالفخر والاعتزاز لفعلتك تلك، وتحسب أنك بذلك جعلت سيرتك الذاتية أكثر ثراء، من تجربتك كجندي محترف.
(أستخدم كلمة "محترف" هنا بمعناها المجازي، لأن الوقائع أثبتت أن الجيش العراقي الحالي يتكون من هواة، قاموا بتسليم كامل سلاحهم وعتادهم لداعش في نينوى والأنبار، ولما قيل لهم إن ما فعلوه "عيب"، استنجدوا بالأمريكان وبلطجية التنظيمات الشيعية ليستعرضوا عضلاتهم على المدنيين العراقيين، الذين لم يعودوا يعرفون أيهما خير لهم: جحيم داعش أم سعير حكومة بلادهم).
بمسلكها الإنساني الراقي، المتمثل في تقديم شخص للمحاكمة لأنه لم يراع حرمة الموتى، وهم في هذه الحالة شخصان ما كانا ليترددا في قتل آلاف الألمان بدم بارد، تؤكد ألمانيا أن الديمقراطية الحقة، ليست الممارسة الميكانيكية، بالذهاب إلى مراكز الاقتراع، بل صون حقوق البشر ومساواتهم أمام القانون، بِغَض النظر عن جنسياتهم ومعتقداتهم وألوان بشرتهم، وفي هذا فهي تخالف إسرائيل التي لا تني تذكر أولياء نعمتها الغربيين، بأنها الدولة الوحيدة الديمقراطية في الشرق الأوسط.
إسرائيل تمارس الديمقراطية بانتقائية، فنظامها يكفل حقوق اليهود المقيمين فيها، ولا فضل لإسرائيلي على آخر حتى بالتقوى أو المنصب، ولكن ذلك النظام لا يعترف حتى بآدمية الفلسطينيين، ولا حقهم في الحياة حتى وهم يعيشون تحت سنابك دباباتها ومركباتها المدرعة، بينما الديمقراطية الحقة تقضي بأن تؤمن بحقوق الناس، وتحترم آدميتهم وكرامتهم أينما كانوا وأيّاً كانت عقائدهم وأعراقهم ودياناتهم.
وعلى كل حال فعلينا نحن أبناء وبنات "أمة من المحيط إلى الخليج"، أن نكف عن ذم الغرب الفاجر الداعر، وأن نكف عن لوك، جيلا بعد جيل، كليشيهات مثل "الغرب يكيل بمكيالين"، لأن حكوماتنا تستخدم مكاييل يصعب حصرها، وهي تتعامل معنا نحن رعاياها، وتمارس التطفيف في الكيل والوزن، فتخف موازين عامة الناس، فيظلون يعيشون في مرحلة انعدام الوزن و"القيمة"، وتثقل موازين خاصة الخاصة، فيصبحون فوق القانون بل يدوسون على القانون والرقاب، دون أن يجرؤ أحد على التساؤل: كم ثلث الثلاثة؟ (فرغم بساطة الإجابة، فقد تعلم الانسان العربي كيف يكبح حصان لسانه، حتى لا يتعرض للرفس والحبس والهرس).
وليت إخوتنا الذين لجأوا إلى الغرب فوجدوا فيه الأمان، يكفون عن سب أهله ونعته بمفردات وتعابير جارحة معلبة، فعلى الضيف أن يتحلى بدرجة عالية من حسن الأدب مع المضيف، خاصة والضيف هنا شخص ضاقت به بلاده فخرج منها، وقالها الإمام علي كرم الله وجهه في عصر لم يكن فيه العربي مسلما كان أم كتابيا، يغادر ديار الأهل والعشير طلبا للعيش الشريف: الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن.
فيا عرب المهاجر، لقد ترحلتم عن أقوامكم مكرهين، فاحتضنتكم بلاد تموت من البرد حيتانها، وحمتكم من الهلاك الذي كان قاب قوسين أو أدنى منكم وأنتم في أوطانكم "الأم"، وعاملتكم معاملة "المواطن"، فلا تكونوا ناكرين للجميل، ولا تبكوا على فراديس متوهمة مفقودة، ولا تكونوا ممن قال فيهم الشاعر: رُبّ من يلقاك رحبا / كسر الزير وراءك.