يعد في نظر أنصاره أحد "الباحثين المناضلين بقوة من أجل الوصول للحقيقة"، لكنه في نظر منتقديه شخص يبحث عن الشهرة، عرّض حياة كثيرين للخطر من خلال نشره كما هائلا من المعلومات الحساسة.
ويوصف من قبل من عملوا معه بأنه شخص متحمس للغاية وفائق الذكاء، ويتمتع بقدرة استثنائية على فك شفرات برامج الكمبيوتر.
وكان جوليان أسانج المولود في كوينزلاند شمال أستراليا عام 1971، مولعا بالعلوم والرياضيات والكمبيوتر، وأمضى طفولته ومراهقته في أسرة مضطربة لأبوين عملا في صناعة الترفيه، وعاش طفولته في ترحال مع والديه اللذين كانا يديران مسرحا جوالا.
وأدين أسانج بتهمة قرصنة الكمبيوتر في عام 1995، ويقال إنه كان يسمي نفسه "مينداكس" عندما ارتكب تلك المخالفات.
ورغم مهارة مجموعة قراصنة الإنترنت في تعقب المحققين الذين يلاحقونهم، فقد ألقي القبض على أسانج وأقر بذنبه، ودفع كفالة كي يظل خارج السجن، شرط عدم تكرار فعلته.
وأمضى بعد ذلك ثلاثة أعوام يعمل مع أكاديمية "سويليت دريفوس" التي كانت تجري أبحاثا تتعلق بالجانب التخريبي الناشئ من الإنترنت، وأعد معها كتاب "العالم السفلي Underground" الذي بات الأكثر مبيعا بين المؤلفات المتعلقة بالكمبيوتر.
ووصفت دريفوس مساعدها أسانج بأنه "باحث ماهر جدا"، كان لديه "شغف بمفهوم الأخلاق ومفاهيم العدالة، وماذا يجب على الحكومات فعله وعدم فعله".
وأعقب ذلك دورة للرياضيات والفيزياء التحق بها في جامعة "ملبورن"، حيث بات عضوا بارزا في قسم الرياضيات، وابتكر مسألة رياضية دقيقة صنفها المعاصرون على أنها ممتازة.
واستمر ولع جوليان أسانج بأجهزة الكمبيوتر حتى أواخر عقد التسعينيات، حيث عمل على تطوير نظم التشفير، وفي عام 1999 سجل موقعه الأول "ليكس دوت كوم"، وبقيت صفحاته غير مفعلة.
وفي عام 2006، أسس أسانج موقع "
ويكيليكس"، الذي يهدف إلى نشر الأخبار والمعلومات المهمة إلى الجمهور من خلال نشر وثائق سرية.
ووضع الموقع سياسة تحريرية لا تهدف إلى الربح من خلال نشر "إخباريات من مصادر مختلفة" بوجود لجنة تقوم بمراجعة ما يرد من وثائق وتقرر النشر من عدمه.
ووفقا لما قاله أسانج، فإن الموقع أصدر أكثر من مليون وثيقة سرية، وهو رقم أكثر بكثير مما نشرته الصحافة حول العالم.
ووفقا للرجل، فإن ذلك شيء مخز، وهو أن يتمكن فريق من خمسة أشخاص من أن يكشف للعالم كل تلك المعلومات التي عجزت الصحافة العالمية عن كشف ربعها على مدار عشرات السنين.
وأصبح "ويكيليكس"، أحد أهم المواقع التي يزورها أولئك الباحثون عن طرق جديدة لعرض المعلومات السرية أمام العامة، عوضا عن الأسلوب التقليدي.
وحظي الموقع باهتمام كبير، بعد نشره تقارير عدة، من بينها تقرير مصور يظهر طائرة هليكوبتر أمريكية وهي تهاجم مجموعة من العراقيين المدنيين وتقتلهم، وكان من بينهم صحفيان لـ"رويترز".
ومن إنجازات الموقع، أنه ألقى الضوء على الممارسات في معتقل "غوانتانامو" وكشف معلومات عن العمليات العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان، غير أن أبرز نجاحاته تبقى إثارة فضيحة "كايبلغيت" عام 2010، عبر نشره عشرات آلاف البرقيات الدبلوماسية السرية للبعثات الأمريكية في الخارج.
وسربها له محلل في الجيش الأمريكي.
أكثر المطلوبين للإنتربول
خطورة الوثائق التي نشرها وضعته في دائرة المطاردة القانونية، فقد أدرجته الشرطة الدولية "الإنتربول" على لائحة أكثر المطلوبين لها، بناء على طلب من محكمة سويدية تنظر في جرائم جنسية "محتملة".
وكانت محكمة ستوكهولم الجنائية أصدرت مذكرة اعتقال دولية بـ"سبب محتمل" بدعوى أنه مشتبه به في جرائم اغتصاب، وتحرش جنسي، والاستخدام غير المشروع للقوة.
واعتقل أسانج في
بريطانيا في كانون الأول/ ديسمبر عام 2010، بموجب مذكرة التوقيف الصادرة عن القضاء السويدي.
وحكم القضاء البريطاني بتسليمه إلى السويد في شباط/ فبراير عام 2012، فقدم اعتراضا إلى محكمة أخرى رفضته، فلجأ إلى المحكمة العليا فحكمت في أيار/ مايو من العام ذاته بتسليمه إلى السويد، مع حقه في الطعن في هذا القرار أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
سفارة الإكوادور
وفضل أسانج عدم الرجوع إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ولجأ في حزيران/ يونيو إلى سفارة الإكوادور في لندن، وطلب اللجوء السياسي.
وقالت بريطانيا إنها يمكن أن تداهم سفارة الإكوادور في لندن للقبض على أسانج، ما أثار استنكارا من حكومة الإكوادور، إذ اعتبرت ذلك تهديدا بالاعتداء على سيادتها، ومخالفة للقانون الدولي.
وأعلن وزير خارجية الإكوادور، أن حكومته قررت منح اللجوء السياسي لأسانج، بناء على ما أورده في طلبه من الأخطار التي قد يتعرض لها في حال تسليمه إلى السويد.
وتهدد الولايات المتحدة بملاحقة أسانج ردا على نشر "ويكيليكس" مذكرات دبلوماسية أمريكية سرية أثارت حرجا للولايات المتحدة مع العديد من الدول.
إلا أن الموقع المشلول بفعل الصعوبات القضائية التي يواجهها مؤسسه أسانج، يعاني بشكل متزايد من تراجع صورته بفعل الاتهامات الموجهة إليه، بأنه دمية بأيدي حكومات وأحزاب سياسية، وبأنه يفتقر إلى القدرة على التمييز في تسريبه الوثائق والمعلومات.
ومع انتشار نموذجه، خسر "ويكيليكس" ما بقي لفترة ميزة حصرية له، كما أن عددا من المقربين سابقا من أسانج ابتعدوا عنه في السنوات الأخيرة.
ومن بينهم خبير المعلوماتية الألماني دانيال دومشايت-برغ الذي كان متحدثا باسم "ويكيليكس"، قبل أن يغادر الموقع في نهاية عام 2010، متهما مرشده السابق الأسترالي بأنه "مهووس بالسلطة".
وقال: "ساهمنا في إحداث تغيير ثقافي من خلال تطبيع وظيفة "مطلق الإنذار"، لكنه رأى أن موقع ويكيليكس يدفع حاليا ثمن رفضه الفرز بين الوثائق وإصراره على نشرها كلها دون تمييز".
وتابع بأن "إدوارد سنودن يحمل قيما قوية جدا، وهو لم يتوجه إلى ويكيليكس، واعتقد بالتالي أن الذين يتصلون اليوم بويكيليكس يفعلون ذلك لأنهم يعتبرونه أداة يمكن التلاعب بها".
وأعرب إدوارد سنودن عن انتقادات مماثلة في تموز/ يوليو الماضي، حين كشف "ويكيليكس" آلاف الرسائل الإلكترونية لمسؤولين في "الحزب الديمقراطي" الأمريكي، من ضمنها البيانات الشخصية الخاصة للعديد من منتسبي الحزب، في خضم حملة الانتخابات الرئاسية.
ودخل أسانج على خط تبادل الاتهامات، بعد فوز الرئيس دونالد ترامب، وطالته بعض الاتهامات، فقد اتهم بخدمة مصالح روسيا، بل أكثر من ذلك، بتسريب وثائق تمدها به موسكو، أو بخدمة مصالح المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية، دونالد ترامب.
ورد أسانج في صحيفة "دير شبيغل"، قائلا: "لن نبدأ بممارسة الرقابة الذاتية لمجرد أن هناك انتخابات في الولايات المتحدة"، مؤكدا أنه سبق أن نشر في الماضي وثائق تتضمن انتقادات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحذَّر بأن "الهجمات تزيدنا قوة".
ويبدو أن مؤسس "ويكيليكس" أصابه التعب بعد نحو خمس سنوات من عيشه في سفارة الإكوادور، فقد أعلن الشهر الماضي أنه مستعد لمغادرة السفارة في لندن وأنه سيسلم نفسه للشرطة البريطانية إذا ما وافقت لجنة تابعة للأمم المتحدة على شطب شكوى تقدم بها ضد بريطانيا.
وكان أسانج تقدم في أيلول/ سبتمبر 2014 بشكوى ضد السويد وبريطانيا لدى مجموعة عمل حول "الاعتقال التسعفي" تابعة للأمم المتحدة، للحصول على اعتراف بأن بقاءه في السفارة الإكوادورية لأربع سنوات تقريبا يعادل احتجازا تعسفيا.
وقال أسانج في بيان على "تويتر": "إذا أعلنت الأمم المتحدة أني خسرت قضيتي ضد المملكة المتحدة والسويد فسأخرج من السفارة لأقبل إلقاء القبض علي من الشرطة البريطانية، إذ لن يكون هناك احتمال مجد لاستئناف آخر".
وأضاف: "لكن إذا ربحت القضية، وثبت أن الدولتين تصرفتا بصورة غير قانونية، فأتوقع أن يعاد إلي على الفور جواز سفري، وأن تلغى أي محاولات أخرى للقبض علي".
وأصدرت اللجنة الأممية قرارا لصالح أسانج في فبراير/ شباط عام 2016، وقالت إنه "اعتقل تعسفيا"، وأن له الحق في التحرك بحرية، وفي الحصول على تعويض بسبب "حرمانه من الحرية".
وهذا القرار ليس ملزما من الناحية القانونية لبريطانيا.
وقالت وزارة الخارجية البريطانية إن هذا القرار "لن يغير شيئا".
وقالت الشرطة البريطانية إنها ستعتقل أسانج إذا غادر مقر السفارة التي يمكث فيها حاليا.
ويخشى أسانج أن تسلمه السويد إلى الولايات المتحدة، وأن يُحاكم هناك بسبب نشره معلومات أمريكية سرية.
وقالت الحكومة البريطانية إنها لن تسمح له بخروج آمن إلى الإكوادور، إذ إنها ملزمة من الناحية القانونية بتسليمه إلى السويد.
وأكدت وزارة الخارجية السويدية أن السبب الوحيد في رغبتها تسلم أسانج هو إمكانية التحقيق بشكل مناسب في الاتهامات الموجهة ضده.
وأسقط الادعاء السويدي التحقيق في اتهامات الاعتداء الجنسي بحق أسانج في آب/ أغسطس عام 2015، بعد انقضاء الفترة المحددة للتحقيق وتوجيه الاتهام. لكن أسانج لا يزال يواجه اتهاما آخر أكثر خطورة يتعلق بالاغتصاب.
وأبدى جوليان أسانج تحفظا إزاء التحدث عن خلفيته، لكن الاهتمام الإعلامي منذ ظهور "ويكيليكس" ألقى بعض الضوء على تأثير هذا الرجل.
وتبنى أسانج نمط حياة أشبه بالبدو الرحل ليدير ويكيليكس من مواقع مؤقتة ومتغيرة.
وبحسب مراسل مجلة "نيويوركر" رافي كتشادوريان، يمكن لأسانج أن يمضي أياما عدة بلا طعام، مُركزا على العمل دون النوم لساعات كافية.
ورغم وجوده في السفارة، إلا أنه لا يزال يشكل هاجسا لأمريكا، فقد نشر "ويكيليكس" أخيرا وثائق خاصة بوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) تظهر أنها تقوم بعملية قرصنة واسعة حول العالم، تسمح لها بالتجسس على أجهزة الهواتف المحمولة والكمبيوتر والتلفزيون.
ودفعت
تسريبات "ويكيليكس" شركتا "أبل" و"جوجل" إلى إصلاح العديد من الثغرات المحتملة، فيما قالت شركتا "سامسونغ" و"مايكروسوفت" إنهما على دراية بالوثائق التي نشرها "ويكيليكس"، وتحققان في الأمر.
وذكرت تسريبات "ويكيليكس" أن "CIA" لديها نحو ألف تطبيق وظيفته الاختراق، والعبث، والخراب، فقط.
وأسانج لن يستطيع التوقف عن التسريب، وليس هناك أي طريق سالكة لخروج آمن له من سفارة الإكوادور في لندن، دون أن يعتقل.