أوفد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقب اتصاله بالرئيس عباس، مبعوثه للسلام "جيسون غرينبلات" إلى المنطقة للقاء المسؤولين الصهاينة والفلسطينيين؛ فالتقى يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين على التوالي كلا من بنيامين نتانياهو ومحمود عباس، في جولة استكشافية للاطلاع على مواقف الأطراف، تحضيرا لرؤية أمريكية، يُفترض أن يُفصَح عنها لاحقا.
لاقى الحراك الأمريكي ارتياحا فلسطينيا رسميا، حيث اعتبرت الرئاسة الفلسطينية اتصال ترامب بعباس نزعا لـ"أوهام إسرائيلية" بأن فلسطين ليس شريكا للسلام. كما أكد الناطق باسم الرئاسة السيد أبوردينة في بيان له، أن الاتصالات الأمريكية "تمثل رسالة واضحة بأن الحل يتمثل في الشرعية الفلسطينية والعربية والدولية، وليس أوهاما..".
لا شك أن قيادة السلطة الفلسطينية، عاشت لفترة طويلة حالة من القلق والخوف المكبوت على مستقبل التسوية السياسية، كمسار يتيم حكمت به على نفسها، منذ توقفه في حزيران 2014، وتلاشي فرص التحريك بعزوف إدارة الرئيس أوباما، وتعهد الرئيس ترامب لاحقا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وتجاوزه لمبدأ حل الدولتين كخيار إلزامي لطرفي الصراع.
إذن مَبْعث ارتياح قيادة السلطة راهناً، لم يأت نتيجة تصور أمريكي جديد لم يولد بعد، ولم يكن نتيجة تراجع الرئيس ترامب عن وعوده للاحتلال وإن لم يشرع بتنفيذها بعد، وإنما جاء نتيجة قبول واشنطن بالجانب الفلسطيني كطرف صالح للمفاوضات، وإبدائها اهتماماً ولو شكلياً بمسار التسوية بمعزل عن المضمون السياسي الغائب حتى اللحظة. أي أن قيادة السلطة الفلسطينية لديها الاستعداد للدخول في ماراثون التسوية السياسية من جديد لمجرد تحريك المياه الراكدة حفاظاً على صفتها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني البعيد كل البعد بقواه وفصائله عن المشاركة الحقيقية في القرار الوطني.
وفي ظل التجربة الطويلة مع الإدارات الأمريكية، فإن الاتصالات الجارية لا يُراهن عليها كثيراً، ولا يُرجى منها تحريكاً حقيقياً لقطار التسوية، أو احترماً لقراراتٍ دوليةٍ تعاملت معها واشنطن على الدوام باستنسابية مفرطة عندما يتعلق الأمر بالاحتلال وبالصراع العربي الصهيوني. هذا ناهيك عن كون إدارة ترامب الأكثر تطرفاً وانحيازاً للاحتلال ولسياساته الاستيطانية.
الأهم من ذلك هو الموقف الصهيوني المتشدد، والرافض لتقديم أي استحقاق بموجب اتفاقيات أوسلو أو القرارات الدولية ذات الصلة، لشعوره بالتفوق والسيطرة على الضفة وغزة؛ فالأخيرة ما زالت تعاني من آثار العدوان الأخير عليها عام 2014، كما تعاني من تداعيات الحصار المستمر منذ عام 2007، ناهيك عن توتر العلاقة بين "حماس" والقاهرة المتحكمة بمعبر رفح وحركة المواطنين والتجارة البينية..، أما الضفة الغربية فهي في حالة استنزاف دائم بحكم التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال، وارتهان اقتصادها بالاقتصاد الصهيوني، وتحول السلطة الفلسطينية واقعياً إلى إدارةٍ لشؤون الحكم المحلي تحت "السيادة الإسرائيلية"، ما أتاح المجال لتمدد المشاريع الاستيطانية وانتشارها بشكل غير مسبوق.
أما على الجانب العربي؛ فالوضع في غاية التعقيد والتشرذم بحكم الاقتتال والتنازع الداخلي والإقليمي في سورية، واليمن، والعراق..، ما جعل الاحتلال يشعر بالراحة خاصة مع تزايد حالات التطبيع معه، سعياً من بعض الدول العربية لكسب رضى البيت الأبيض عبر البوابة "الإسرائيلية"، وهذا ما يفسر قبول العرب بسقف أخفض من سقف أوسلو ومبادرة السلام العربية (قمة بيروت 2002م)، حيث أفادت مصادر الاحتلال مؤخراً، وهو ما أكده نتانياهو والرئاسة المصرية، عن لقاء جرى في العقبة الأردنية في آذار/مارس 2016م، بحضور الملك عبدالله الثاني، والرئيس السيسي، ورئيس وزراء الاحتلال نتانياهو، ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري الذي قدّم بدوره مبادرة للتسوية، مقبولة عربياً، تقوم على أساس حل الدولتين، وحق الكيان الصهيوني في الحصول على ترتيبات أمنية، واعتراف العرب والسلطة الفلسطينية بـ "يهودية إسرائيل"..، ما يعني تنازلاً مسبقاً عن حق العودة لنحو 6 مليون فلسطيني إلى أراضيهم التي هجّروا منها قسراً..، وبالرغم من كل ذلك فنتانياهو وحكومته اليمينية لم توافق على عرض كيري والعرب السخي، طمعاً بما هو أكثر بحكم ضعف العرب وقوة الاحتلال.
إذن هرولة السلطة الفلسطينية خلف الإدارة الأمريكية أشبه بالسعي خلف السراب؛ فكل ما يمكن أن تقدمه إدارة ترامب هو تنشيط لعملية التسوية السياسية، وفقاً لرؤية نتانياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، أي مفاوضات ثنائية دون رعاية دولية، ودون محددات سياسية كالإلتزام بحدود عام 1967، أو ما يسمى بالشرعية والقرارات الدولية ذات الصلة..، وهذا يعني أن السلطة الفلسطينية ستذهب منكشفة حتى العظم، ما يمنح الاحتلال المزيد من الوقت لاستكمال مخططاته دون اعتراض أو تحفظ أمريكي على السياسات الاستيطانية التي ستمهد الطريق لضم نحو 60% من أراضي الضفة الغربية المصنّفة (c) وفق اتفاقية أوسلو، ومن ثم تخيير الفلسطينيين في أحسن الحالات بين حكم ذاتي محدود تحت "السيادة الإسرائيلية" حسب رؤية وزير الحرب ليبرمان، أو الكونفدرالية مع الأردن وفقاً لرؤية نائبة نتانياهو "تسيفي حوطبيلي"، التي تدعو عملياً لكونفدرالية بين الديموغرافيا الفلسطينية والمملكة الأردنية، تراعي الحاجات الأمنية للكيان الصهيوني.
إنّ السياقات الواقعية لأداء القيادة الفلسطينية وسلطة أوسلو، أصبحت تمثل عائقاً جدّياً أمام القضية الفلسطينية، واستمرار الحال على ما هو عليه سيُفضي بالضرورة إلى كارثة وطنية، لا سيما عندما نتحدث عن حرمان 6 مليون فلسطيني من حق العودة إلى الأرض التي أبعدوا منها قسراً، والتي أصبحت أراضٍ "إسرائيلية" بحكم القانون الاحتلالي وقوة الأمر الواقع الذي تقف أمامه السلطة الفلسطينية عاجزة إلا من مناشدة للمجتمع الدولي، أو شكوى مقدمة إلى الرئيس الأمريكي الراعي والشقيق الأكبر للكيان الصهيوني المحتل.
هذا الوضع يتطلب وقفة جادة وإعادة نظر وتقييم لمسار التسوية السياسية ومفاعيلها، وفقاً لمنظور وطني جديد يحمي الثوابت الوطنية، ويراعي متطلبات العمل السياسي بامتلاك معالم القوة الذاتية والموضوعية، بعيداً عن الرهان على الإدارة الأمريكية..، وإلا فإن السلطة الفلسطينية ذاهبة بالقضية إلى الهاوية.
*كاتب ومحلل سياسي فلسطيني