كتاب عربي 21

حصة البطل السوري وفكّة الكومبارس

1300x600
لم يهتم النظام بشيء قدر اهتمامه بالتمثيل التلفزيوني، كان يحارب السينما والمسرح الذي قدّسه أدونيس كإله غائب. المسجد لم يكن قادرا على إغلاقه فكان يسرق الخطبة.. الفلم التلفزيوني يُشاهَد من العائلة الصغيرة، أما السينما فتجمع المئات والآلاف في مكان عام. كان النظام يخاف من زقزقة العصافير أن تهتف باسم الحرية، ولذلك فرض قوانين الطوارئ والأحكام العرفية منذ أن تَوَلَّى وسَعَى فِي الْأَرْضِ فسادا.

وليس أفسد من أن يهتف الشعب غدواً وعشياً، بكرةً وأصيلاً: بالروح بالدم نفديك يا حافظ.

 تعالوا نعدد بعض إنجازات النظام السوري مقارنة بتركيا..

ليس في سورية الأسد قطار سريع على سكة مغناطيسية، سوى القطار الذي صعد فيه طويل الرقبة، في مراتب السلطة والجيش، حتى القطار البطيء قطّعوه قطعاً، ودفنوه في إحدى المحطات.

للقرى والمدن في كل البلدان رقم بريدي، حتى القرى الخليجية التي يتهكم عليها الإعلام السوري لها رقم بريدي، إلا سوريا، وهو أمر لا يحتاج حتى إلى مواد أولية.

ليس فيها سوى أحزاب "الجبنة" الوطنية التقدمية. ليس فيها قنبلة نووية، وأسلحتها الكيماوية الاستراتيجية سلمّت "عارية مردودة" إلى أمريكا، مقابل قتل الشعب بالأسلحة التقليدية. شعبه وهو حرٌّ فيه، يقتله بالسلاح الذي يريد، الشعب ملكية خاصة. لو كان لديه قنبلة نووية لاستخدمها ضده. ألم يطالب طالب إبراهيم بهذا؟

لكنَّ صناعة الدراما فيها كانت ثقيلة، أخرجت أبطالاً وقادة حقيقيين، أمثال جمال سليمان، الذي يقود إحدى فرق وكراديس المعارضة، ويطالبنا بغض النظر عن إسقاط الأسد، وكأننا نستغني عن مشهد تلفزيوني؟!

لماذا ليس لبلاد المقاومة والممانعة مثل سوريا سوى صمّام أمان واحد هو الرئيس! 

استعادت الكاميرا السورية كل أبطال العرب القدامى في نسخة استبدالية، مع أن الرئيس وأباه يكرهان التاريخ، كما يكره المؤمن لحم الخنزير، وكان يعادي المعاصر منه والإسلامي، فمنذ أن تولى وسعى فِي الْأَرْضِ فسادا، وجدنا أبطال العرب أحياء يرزقون، ويمشون بيننا في الشوارع، يثنون عِطْفِهِم مثل:  الزير سلوم، وياخور بن الوليد، وجمال سليمان الأيوبي، وكليوباترا فواخرجي، وزنوبيا نعنع، وابن الوهاج.. عفواً ابن الوهاج هو أحد أبطال منافي الخيال، الذي وجده المؤلفون فنزحوا إليه هربا من تكاليف التاريخ، إلى أندلس الفانتازيا التاريخية.

كان الرئيس يهوى وأد التاريخ، وبعثِه أبطاله بنسخ أرواحها في ممثلين، والممثل لا يعول عليه، كل ساعة في حال، وحتى أبرهن على دعواي: إنه إبان قتل الحريري - وكان رئيس سوريا هو المشتبه به الأول بقتله- ارتفع منسوب الوطنية السورية، وعُلقت شعارات فوق الجدران واللوحات العملاقة، وكان أشهرها لوحة للممثل باسل خياط، وفوقه العلم السوري، وتحته بيت شعر يقول: حماة الديار عليكم سلام. فما هي الزلّاقة التي خاضها الممثل؟ 

الهروب الكبير من التاريخ، جعل إعلام النظام يبحث عن ضالته في ممثل! وكأنه ليس في سوريا أبطال معاصرون أو غابرون، مثل يوسف العظمة وإبراهيم هنانو، وفارس الخوري وسلطان الأطرش... أما الغابرون فليس لهم صور سوى المتخيلة.

سلّط النظام جيشه المسلّح بالنار على الأرض، وجيشه المسلّح بالنور الصناعي على التلفزيون، فكان أن استُدعي أو سُحل، الزير سالم من الإمارات ليبكي على كليب وائل، ويؤدي مشهداً مؤثراً بالدموع على جزمة الجندي السوري، والجندي المسكين يكاد يصيح ويهتف من الجوع: أطعموني شيئاً غير حديث جزمتي المقدسة، أو زيارة كليوباترا فواخرجي: جوعان ... جوعان.

ربما هتف في سرّه: خذوا جزمتي بارك الله لكم فيها، وزوجوني من كليوباترا، بعد تطليقها من أنطونيو طبعا.

وسُيّر موكب كليوباترا إلى الثكنات، حتى ترفع الروح "المعنوية" للجند التالفين من الجوع والمسغبة العاطفية، ليس بالروح المعنوية يعيش الإنسان. في صفحتي كثيرا ما أرى صورا ترفع المعنويات، أظن أنها تخفضها إلى الدرك الأسفل.

وقد قلت في سرّي، فجهريتي محتلة: كيف فتح أجدادنا العظام بخارى وسمرقند، وبلاد السند والهند، وداسوا على بيضة الصين، ولم يكن لهم ونجوم أمثال كليوباترا فواخرجي، ورغدا تدمر، وجمال سليمان، وأبو الهنا، ترعب العدو، وترفع الروح المعنوية.

أمس استُدعي الممثل النائب عارف الطويل إلى العدوة القصوى من ساحة العباسيين ليؤدي دوراً في فلم إخباري مع المذيع "هوسين مورتزا " عن عودة الاستقرار والسلام والأمن إلى الشام، بعد غزوة "يا عباد الله اثبتوا" التي ترجمها الناشطون في العدوة الدنيا إلى: "اللي يحب النبي يخلي"، فأفسدت المعارضة المسلحة المشهد و"الأوردر".

حتى المذيعات صرن بارعات في التمثيل في عهد الابن، فكانت مذيعة المطر تطلب في "الميادين" من دريد لحام أن يغني أغنية "بكتب اسمك يا بلادي ع البوط اللي ما بيغيب" فأنشدها، فبكت بدموع حرّى على شمس الأسد، ومذيعة الدم والجثث ميشلين عازار ... الغرض هو: إشعار الجمهور الموالي أنهم منتصرون، وإهانة الشعب السوري لأن سنوات ستاً من الحرب أبلت كل شيء.

الممثلون والنجوم والمحللون السياسيون مثل ناصر قنديل، وأنيس النقاش، وشريف شحادة، لم يعد لأضوائهم نور، "خلص كازهم" كما تقول العبارة الشعبية، أصيب كلامهم بالتضخم، لم يعد للمطربين قيمة، فباتت الحاجة ماسة إلى كومبارس من أبناء الشعب، إلى محجّبة شامية تمر لتنفي القذى عن عين الكاميرا وهي عوّار، إلى سيدة شامية أو من يمثل دورها، تنثر الرز على بعض الجنود، والرز عزيز، فكان الكومبارس صهيب شعيب، الذي من كثرة ظهوره وأدواره تحوّل إلى نجم تلفزيوني.

تغيرت أمور كثيرة، استيقظ التاريخ، وضمرت الجغرافيا، وخمدت النجوم السورية وانطفأت، ونزح بعضها إلى كندا أو ألمانيا.. ورأينا صورا كثيرة للممثلين إعلانات ضخمة، لكننا لم نرَ تكريما حقيقيا للجندي السوري الكومبارس، إلا بعد الموت، بصورة ملونة على الحائط، لا يستحق الجندي السوري النظامي صورةً، سوى بعد الموت، الروح ثمنها صورة على حائط، وربما معها ساعة حائط.

هناك تغير آخر سببه الحرب، فقد زادت علمانية سوريا درجةً، ولم يعد يقسم أعضاء مجلس الشعب على القرآن الكريم.

تخيّل معي، إكراما للجندي السوري المسكين الضحية الكومبارس، أن يقسموا ببوطه في مجلس الشعب بعد أن جعلته الثورة أيقونة تقبل وتباس؟ ألم تنصب للبوط أنصاب وتماثيل؟

يمكن .. يمكن جداً.