ثمة احتفال في عدد من الدوائر العربية بالسياسة النشطة والطموحة التي تتبناها روسيا، على الأقل منذ عودة بوتين للرئاسة في أيار/مايو 2012. أغلب المحتفلين العرب يتحدرون من خلفيات قومية أو يسارية سابقة، وشريحة معتبرة بينهم لا تخفي توجهاتها الطائفية، ولكنهم متفقون جميعاً، كما يبدو، على رسم صورة إيجابية لروسيا القرن الحادي والعشرين. أحد أهم أبعاد هذه الصورة، أن روسيا أخذت تقوم بدور، ولو جزئي، في معادلة القوة الأمريكية التي تفردت بالشأن العالمي بعد نهاية الحرب الباردة. وسواء بدوافع حسن الظن، أو لاعتبارات الجهل والكسل الذهني، يجري تقديم روسيا بوتين باعتبارها وريثة الموقع الذي احتله الاتحاد السوفييتي على المسرح العالمي، سيما في العقود التالية على الحرب العالمية الثانية. ولأن الولايات المتحدة، حتى بعد سنوات ثمان من حكم رئيس ليبرالي أسود، لم تزل تعتبر قوة باطشة وشريرة في آن، ينظر إلى محاولات بوتين لعب دور مستقل عن، وفي صدام أحيانا مع، الولايات المتحدة كأنها تستبطن إحياء الدور الذي لعبه الاتحاد السوفييتي.
خلال الخمسينيات والستينيات وبعض السبعينيات، على الأقل، وقبل أن تصبح السياسة الخارجية السوفياتية أكثر براغماتية وانتهازية، وقف السوفيات مع حركات التحرر في دول العالم الثالث، قدموا نموذج تنمية بديلا عن النموذج الرأسمالي لدول آسيا وإفريقيا، وساهموا بصورة ملموسة في تحديد المجال المتاح لفرض إرادة الولايات المتحدة والقوى الإمبريالية الأوروبية السابقة على شعوب العالم. فلماذا لا يكون بويتن، يتصور هؤلاء، مبعوث العناية الإلهية الجديد لصناعة التوازن مع القوة الأمريكية الباطشة؟ ليست روسيا، بالطبع، الاتحاد السوفييتي، ولا بإمكانها أن تستعيد دوره في معادلة التوازن الاستراتيجي مع الغرب الأطلسي، عموماً، والولايات المتحدة، على وجه الخصوص. احتل الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه مساحة جيوسياسية هائلة في قارتين، وامتلك مقدرات اقتصادية وتسليحية هائلة، إضافة إلى أنه بني أصلاً على أساس من أيديولوجيا يوتوبياوية، داعبت خيال الملايين في العالم، بما في ذلك في قلب مجتمعات الدول الغربية المناهضة له. ولكن، وفي النهاية، فحتى الاتحاد السوفياتي لم يستطع الاستمرار في معركة التنافس مع الكتلة الأطلسية، واضطر إلى الاعتراف بالهزيمة، والتخلي بالتالي عن تحالفاته وبنيته السياسية، في واحدة من أبرز تحولات التاريخ الحديث.
بيد أن هذه المسألة، مسألة قصور روسيا عن موازنة القوة الأمريكية، التي كان تم التسليم بها في تسعينيات القرن الماضي، أصبحت اليوم محل جدل. يتعلق بعض هذا الجدل بجدل آخر حول التراجع الأمريكي، وحول قدرات روسيا العسكرية المتزايدة؛ كما بسيناريوهات، يصعب تلمس ما يؤيدها، تتعلق بتحالف روسي ـ صيني، أو تحالف روسي مع دول البريكست. ولكن، إن كانت إمكانيات روسيا ومقدراتها محل جدل، فإن الخيارات السياسية التي تتبناها إدارة الرئيس بوتين ليست كذلك. يمكن بالتأكيد الخلاف حول دوافع السياسات الروسية الخارجية، ولكن من تختارهم روسيا أصدقاء وحلفاء، من توفر لهم المساندة والدعم، من تعتقد أنهم يمثلون ركيزة استراتيجية لدورها وراء الحدود، يمكن التعرف عليهم بدرجة عالية من اليقين. كما أن الآثار المحتملة لسياسات روسيا الخارجية أصبحت واضحة، ويمكن تلمسها بالفعل.
استقبل بوتين قبل أيام قليلة فقط مرشحة الرئاسة الفرنسية عن حزب الجبهة الوطنية، مارين لوبن، التي لا تحمل برنامجاً يمينياً وحسب، بل أن يمينية الحزب الذي ورثت قيادته عن والدها هي الأكثر تجذراً في تربة الجمهورية الفرنسية الرابعة. وتمثل لوبن في الحقيقة يميناً عنصرياً، أصبح مثالاً يقتدى به لقوى اليمين العنصري الأوروبية الجديدة. لم يكن استقبال بوتين للوبن صدفة، لأن التحالف مع قوى اليمين، واليمين العنصري، سيما في أوروبا والولايات المتحدة، يبدو كأنه أحد ثوابت السياسة الخارجية الروسية. وبالرغم من أن ليس ثمة ما يشير إلى أن إدارة ترامب ستستطيع صناعة تحول ملموس في الموقف الأمريكي من روسيا، تتزايد الأدلة على الدور الذي لعبته الأجهزة الروسية في دعم الحملة الانتخابية للمرشح ترامب، وعلى سعي روسيا إلى إقامة علاقات مبكرة مع مقربين من ترامب. هذا، بالرغم من أن يمينية وعنصرية البرنامج الذي حمله ترامب كانت واضحة منذ الأسابيع الأولى لحملته الانتخابية. هناك من يقول، بالطبع، أن بوتين ينتهج سياسة براغماتية، وأن ترحيبه بقوى اليمين العنصري يعود لقناعات روسية بأن هذه القوى وحدها في الدول الغربية من تسعى لتفكيك الاتحاد الأوروبي والتخلي عن الناتو. وهذا قد يكون صحيحاً، بالتأكيد، ولكن، ومهما كانت النوايا، فهناك هوة أخلاقية شاسعة تفصل بين علاقات الاتحاد السوفياتي بقوى اليسار والنقابات العمالية وترحيب بوتين بلوبن وترامب وغيلدز.
موقف روسيا من طموحات الشعوب في الحرية والديمقراطية لا يقل سوءاً. وقفت روسيا ضد كل تيارات التحول الديمقراطي في وسط آسيا والبلقان وأوكرانيا. وفي الأخيرة على وجه الخصوص، أشعلت الأجهزة الروسية حرباً أهلية لمحاصرة النظام الذي اختاره الأوكرانيون بعد ثورة 2014.
دول هذه المناطق كانت جمهوريات سوفياتية قبل انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات؛ ونظراً لأنها تقع في المجال الحيوي الاستراتيجي لروسيا الجديدة، فقد يقال إن سياسة بوتين المناهضة للتحول الديمقراطي في هذه الدول ليست سوى سياسة دفاعية ضد الزحف الغربي وجهود حلف الناتو لمحاصرة روسيا والوصول إلى الحدود الروسية ذاتها.
المشكلة، أن روسيا لا تقف مع الاستبداد وتعتمد سياسة مناهضة للتوجهات الديمقراطية في دول مثل جورجيا وأوكرانيا وأوزباكستان، وحسب، ولكنها اختارت أيضاً الوقوف مع النظام الانقلابي في مصر، مع الانشقاق الحفتري في ليبيا، مع النظام الطائفي في العراق، ومع نظام فاشي قاتل في دمشق. ليس هناك خطر غربي يهدد المصالح الروسية في مصر والعراق وسوريا؛ والموقف الأمريكي من أنظمة هذه الدول يراوح بين الدعم، تماماً كما الموقف الروسي، أو عدم الاكتراث. ما توحي به السياسة الخارجية لإدارة بوتين، أن هناك خشية عميقة في موسكو من رياح الديمقراطية، وعداء روسيا أصيلاً لطموحات الشعوب في تقرير مصيرها.
روسيا الجديدة، باختصار، تتبنى سياسة معادية للشعوب، سياسة تفتقد، في أغلب الأحيان، القيم العليا، أو حتى التصنع بالدفاع عن منظومة قيم إنسانية عليا، كما تفعل الولايات المتحدة. مسكوناً بعقدة الانهيار والتراجع، وتخيلات تاريخية عن تفرد روسي ما، يبني بوتين نظاما قوميا، يبحث عن موقع له على المسرح العالمي بالتحالف مع قوى هامشية وشاذة. ويبدو أن ليس هناك من عواقب يمكن أن تجعل روسيا بوتين تفكر مرتين قبل الانحياز لأمثال نظام الأسد والحكم الانقلابي في مصر والانشقاق المسلح في شرق ليبيا والانقساميين الأكراد في سوريا، حتى إن تجلت هذه العواقب في حروب أهلية وإهدار لحياة الشعوب ومقدراتها وتشظ للحمتها الوطنية. للحفاظ على وهم الدور والموقع، ليس ثمة ما يمنع من دعم نظام مجرم في سوريا في حربه الوحشية على شعبه، ولا ما يمنع من التحالف مع أحزاب كردية مسلحة، تهدد بتقسيم سوريا، ولا ما يمنع الوقوف مع أبشع نظام قمعي عرفه تاريخ مصر، ولا حتى الوقوف مع عسكري معتوه بأحلام نابليونية مثل خليفة حفتر.
روسيا الجديدة لا تذكر بيوتيوبيا الاشتراكية السوفياتية وتضامن عمال العالم والنضال ضد الإمبريالية. روسيا الجديدة تذكر، في الحقيقة، بروسيا أخرى، أقدم قليلاً، روسيا القيصرية، وتوسعها الإمبريالي المسلح وسياسات البطش بشعوب آسيا الوسطى والبلقان.