ترجع أهمية دراسة تراث
ابن تيمية بمنهجية أكاديمية موضوعية، إلى كونها تسعى لقراءة أفكاره ومقولاته متحررة من آفات الانحياز الأيديولوجي، الذي طغى على توجهات غالب السلفيات المعاصرة، إذ يزعم كل اتجاه من اتجاهاتها بأنه الأحق به، والأكثر دقة في فهمه، والأشد وفاء لتقعيداته المنهجية، وتقريراته
السلفية.
في هذا السياق تأتي هذه الدراسة الأكاديمية المتميزة، للباحث المصري المتخصص في الجماعات الإسلامية، الدكتور هاني نسيرة، الموسومة بـ"متاهة
الحاكمية..أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية" والصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 2015، ضمن سلسلة أطروحات الدكتوراة التي يصدرها المركز.
لطالما لاحظ كثير من الباحثين مركزية حضور ابن تيمية في أوساط السلفيات المعاصرة، كمرجعية حاكمة يفزع إليها القوم حين يريدون تقرير أصولهم بشكل محكم، وإثبات صحة مواقفهم في مقابلة خصومهم، لكن ابن تيمية (المرجعية) غدا "محل صراع بين سلفيات غير جهادية رغم ما بينها من تباينات، وسلفيات جهادية تدعي أنها السلفية الحقيقية وغيرها أدعياء السلفية" بحسب ملاحظة الباحث نسيرة في مدخله المنهجي: لماذا ابن تيمية؟
ووفقا للدراسة "فقد نشطت دعوات سلفية معاصرة تعتمد تأسيساته، وتتخذها منهجا لها، ولكن لكل منها قراءتها الخاصة، وإن اختلفت مدارسها ما بين سلفية علمية أو تعليمية، وسلفية أهل الحديث، وأخرى توصف بالجامية أو المدخلية، وسلفية ألبانية، ويحاول البعض توظيفه وادّعاء النسبة الصحيحة إليه عكس هؤلاء، كالسلفية القطبية أو الحركية في مرحلة، ثم السلفية
الجهادية التي تضم منهج الجهاد في تغيير المجتمعات لمنهج السلف في الاعتقاد والأحكام".
من بين كل تلك السلفيات، اختار الباحث السلفية الأخيرة لتكون موضع هذه الدراسة مع صعودها وتمددها، وانتشار تنظيماتها وإماراتها وممارساتها "بعد أن باتت أخبارها مادة أساسية في نشرات الأخبار اليومية، وموضع اهتمام ورصد مراكز البحوث والدراسات العالمية، وفي الوقت نفسه تلفت أنظار العالم بأسره".
ولاحظ الباحث أن ابن تيمية وسط هذا الزخم المعاصر، كان مرجعية بين مختلفين ومتصارعين، فالكل يجتمع عليه ويختلف فيه أيضا، وأحيانا يُخطئه وأخرى ينسب التبرير وشرعية الممارسات إلى بعض أحكامه وفتاويه، وأحيانا أخرى يعتذر عنها بمراجعة مواقفه ومراجعة قراءته له، وهو ما اتضح في مرحلتين من تاريخ السلفية الجهادية وتنظيماتها: مرحلة التأسيسات التي استمرت عقودا، ومرحلة المراجعات التي شهدها العقدان الأخيران، رغم أن الأخيرة لم تكن شاملة.
تضمن الكتاب مقدمة وخمسة فصول، جاءت تحت العناوين التالية: الفصل الأول: ابن تيمية محطات السيرة وإشكالات الخطاب، الفصل الثاني: النظرية السياسية الإسلامية من الماوردي إلى ابن تيمية، الفصل الثالث: ابن تيمية وتأسيسات السلفية الجهادية، الفصل الرابع: قراءة مغايرة: مراجعات السلفية الجهادية وابن تيمية، الفصل الخامس: مراجعة ابن تيمية: من فلسفة الجهاد إلى الفتاوى السياسية.
إشكاليات قراءة السلفية الجهادية لابن تيمية
استخدم الباحث مفهوم الاشتباه كمدخل تفسيري لبيان أخطاء فهم جماعات السلفية الجهادية لتراث ابن تيمية، لافتا إلى أن علماء وفقهاء ومفكرين سبقوه في الدعوة إلى "ضبط وتصحيح قراءة ابن تيمية.. لكن دون التحامهم بخطاب السلفية الجهادية المعاصرة".
في ملاحظته المنهجية الأولى استبعد الباحث أن يكون "اتساع خطاب شيخ الإسلام أصابه ببعض التناقض، والتناقض هنا غير التطور الفكري الذي يمكن رصده في بعض مؤلفاته ومراحله، كمراجعته لموقفه من التأويل الباطل واستعاضته عنه بمفهوم التحريف في العقيدة الواسطية، مشيرا إلى أن "الأخطر في اشتباه وأخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية هو توظيفهم له لهدف وغاية لم تكن أبدا من أولويات خطابه وثانوياته، بل كانت موضع هجومه وهدف نقده، وهو موضوع الحاكمية والإمامة.
ولضبط فهم خطاب ابن تيمية حدد الباحث خمس قواعد، جاءت كالتالي:
• ضرورة قراءة وتجلية موقف شيخ الإسلام في ظروف عصره، والمقارنة بين نظره وتطبيقه، ورأيه وممارسته حتى يصح الفهم.
• ضرورة التفرقة الواضحة بين الفتاوى الجزئية والتاريخية، وما هو مبدأ عام وقاعدة كليه تأسيسية غير مرتبطة بزمان أو مكان محددين.
• ضرورة إدراك مراحل تطور خطاب ابن تيمية، وترتيب مؤلفاته وتطور قراءته للمسألة الواحدة أو مجموعة مسائل وربطها ببعضها، فبعض كتبه متقدمة، وبعضها الآخر متأخر...
• عدم اعتماد الشوارد والآراء التفصيلية والفتاوى التاريخية بعيدا من أسس هذا الخطاب ومنظومته، وقد تنوعت مؤلفاته في هذا السياق.
• تقديم خطاب ابن تيمية على المرويات عنه وفي سيرته، فبعض تلامذته يروي سماعا ولم يكن شاهدا، وقد يضمن رأيه غير رأي ابن تيمية.
أرجع الباحث نسيرة أسباب الاشتباه والالتباس في قراءة تراث ابن تيمية إلى سببين، أولهما يعود إلى نصوص ابن تيمية نفسها، وثانيهما يتعلق بقراءة المعاصرين لتلك النصوص وإسقاطاتها، ومما ذكره في بيان السبب الأول أن الالتباس الذي يحمله خطاب ابن تيمية في نفسه، سواء في منطوقه أو مفهومه، يتعلق بأسلوبه أو صياغته، تجاه العديد من المسائل، وتداخل المحكم والمتشابه من كلامه، وتوزيع الخطاب على أكثر من مصدر، ونمط الكتابة بين التأصيل والاستطراد..
أما أسباب الالتباس والاشتباه المتعلقة بتلقي خطاب ابن تيمية ومناهج فهمه، فمن أهمها طبقا للدراسة: التعصب المذهبي والتحيز المعرفي، اشتباه التاريخية واختلاف التصورات الحاكمة، عدم إدراك التطور الفكري عند ابن تيمية، وأسباب خارجية تتعلق بالصورة الشائعة والنقل الخطأ، ويجمل الباحث تلك الأسباب بإرجاعها في مجملها إلى دقة نقل كلام ابن تيمية وحسن فهمه في الوقت نفسه، ومثل لذلك بفتوى ماردين الشهيرة.
أخطاء الجهاديين في قراءة ابن تيمية
تلح الدراسة كثيرا على أهمية الضبط المنهجي في قراءة تراث ابن تيمية، وتعتبره عاصما مهما من الخطأ والزلل في فهمه، وتقترح "منهج المقولات الحاكمة والتصورات الرئيسة كنهج يستطيع أن يجمعها ويحدد أولويتها في تجديد وتمكين أهل
السنة والجماعة من مواجهة الخطر الداخلي..، وفي مواجهة الخطر الخارجي المحدق بالأمة..
ومما تبرزه الدراسة بشكل تفصيلي "إهمال الجهاديين للنظرية السياسية عند ابن تيمية: فالسلفية الجهادية والحركات التابعة لها في مرحلتها الأولى، وفي مراجعاتها، أهملت النظرية السياسية الإسلامية السنية في الإمامة، حين قبلت منذ البداية بالخروج الذي كان سمة للفرق غير السنية كالخوارج والشيعة، والخروج يبدو مستبعدا في فكر وسيرة شيخ الإسلام الذي كان يتحرك دائما في داخل المشروعية الحاكمة وليس خارجا عنها.
كما اعتنت الدراسة في رصدها وإظهارها لأخطاء الجهاديين في قراءتهم لتراث ابن تيمية ببيان موقف ابن تيمية من "مسألة الإمامة والحكم، والتي لم تكن مسألة أولوية أو رئيسة في خطاب ابن تيمية وجهاده، على العكس من الحركات والجماعات الجهادية، وأكد ابن تيمية في منهاج السنة ردا على الشيعة أنها ليست من أشرف المسائل في الدين، بل مسألة متأخرة، فقد كانت قضيته الأولى هي التوحيد وإصلاح عقائد الناس وفهمهم للدين، والخوف من الفرق والبدع أكثر من خوفه من الملل والنحل الأخرى.
وبيّنت الدراسة أن ابن تيمية كان يمتاز بواقعية الفهم السياسي والجهادي، وهو ما جعل ابن تيمية ـ على خلاف الجهاديين ـ يتعاطى مع السياسة والحكام تعاطيا واقعيا قائما على النصح والنقد السلمي والمدني، وهي سمة عامة للمذهب الحنبلي، سبقه إليها الإمام أحمد، وجددها ابن تيمية بمنهجه الحجاجي الذي كان فيه سامقا عن سابقيه ولاحقيه من الحنابلة والمنتمين لأهل الحديث، واعترف وأكد أهمية الشوكة في الحكم، وكذلك على جواز تعدد الحكم في العالم الإسلامي، كما يميل موقفه في الجهاد لجهاد الدفع على جهاد الطلب".
وأكدّت الدراسة أن ثمة تباينا في الموقف من المخالفين بين ابن تيمية والحركات الجهادية المعاصرة، "فبينما تشتد الحركات الجهادية مع مخالفيها، تبديعا أو تكفيرا نجد شيخ الإسلام ابن تيمية نافرا من تكفير المخالفين أو تبديعهم، يرفض التعيين، يخطّئ ولا يكفِّر، ويصوِّب ولا يقصي وفي مواقفه من منتقديه وأسباب محنه كنصر المنبجي وابن عطاء الله وغيرهم واحترامه لمخالفتهم دليل واضح على ذلك".
وامتدحت الدراسة حضور الوعي التاريخي في خطاب ابن تيمية وممارسته، والوعي التام بمآلاته ونتائجه، واصفا الحركات الجهادية في مراحلها التأسيسية الأولى بالافتقار إلى ذلك، وإن عادت إليه بعض اتجاهاتها في مراجعاتها اللاحقة باعتمادها فقه المآلات وفقه التاريخ والاعتبار به، بعد أن كان بعض منظريها يرفض هذا التطور التاريخي ويتعالى عليه، رافضا ما اصطلح عليه بـ"فقه السيرة"، بينما شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه ـ خطابه التاريخي ـ أو في تأسيساته الثابتة يعطي اعتبارا كبيرا للسيرة ولتاريخ النبي عليه الصلاة والسلام، والخلفاء من بعده، في فهم الأحكام والوقائع".
ومن وجوه الخطأ التي وقعت فيها الحركات السلفية الجهادية في قراءتها لابن تيمية، "خلطها بين الزمني والتاريخي من جهة وبين الثابت والعقيدي من جهة أخرى في تراث ابن تيمية، واستخدامها مفاهيم وحمولات ابن تيمية النظرية بالمفاهيم المعاصرة نفسها، ومن ذلك على سبيل المثال مفهوم الشريعة الذي يستخدمه ابن تيمية بمفهوم كل الدين اعتقادا وشرائع، وخاصة الأولى،بينما تستخدمه هي يمفهوم القوانين والتشريعات الإسلامية، كما إن ابن تيمية أجاز التوسع في الاجتهاد السياسي لأنه والجهاد مسائل تقديرية واجتهادية.
يتبادر إلى ذهن القارئ وهو يطالع فصول هذه الدراسة، أن التمركز حول تراث ابن تيمية باعتباره مرجعية حاكمة في أوساط تلك السلفيات المختلفة تكتنفه مخاطر كبيرة، تتطلب جهودا بحثية مضنية وشاقة لتخليصه من آفات الانحياز الأيدلوجي حين قراءته، وقبل ذلك تهذيبه من أزماته الداخلية برد متشابهه إلى محكمه، وهو ما يعني بالضرورة أن الاحتكام إلى ذلك التراث سيبقى محل جدل صاخب لأن المطلبين السابقين يصعب تحقيقهما وإنجازهما.