في العدد الأخير من المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط (أيار/ مايو 2017)، نشر المؤرخ التركي عبد الرحمن أتشيل دراسة حول موقف الفقهاء العثمانيين من المسألة الصفوية في القرن السادس عشر.
تنبع أهمية عمل أتشيل من القراءة التحليلية التي يقدمها لنصوص عدد من الفقهاء العثمانيين البارزين، خلال مرحلة الصعود الصفوي المبكر، وكشفه عن التباين في مقاربة كل من هؤلاء الفقهاء للتهديد الذي مثله الصفويون وكيفية التعامل مع هذا التهديد، كون العلماء المسلمين السنة لم يروا لأنفسهم مرجعية مطلقة يمكن أن يلتزم بقولها.
تعود الأسرة الصفوية، في الأرجح، لأصول سنية- صوفية- تركمانية، قبل أن تتحول إلى التشيع في النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، وتقود حركة مسلحة، جمعت بين الكاريزما والأسطورة والاعتقاد الديني.
مع بداية القرن السادس عشر، نجحت الحركة الصفوية في التحول إلى دولة يعتد بها، تسيطر على مساحات واسعة من الهضبة الإيرانية والعراق، وتسعى للتوسع حتى شبه القارة الهندية.
في الوقت ذاته، أصبح شرق الأناضول ساحة صراع مكتوم بين الدولة الصفوية والسلطنة
العثمانية، حيث وظف الصفويون أصولهم التركمانية لنسج صلات وثيقة مع عشائر الأناضول ذات الأصول نفسها.
لمواجهة المخاطر المتصاعدة، قرر السلطان العثماني، سليم الأول، في 1514، توجيه ضربة استباقية، ووضع حد للخطر الذي بات الصفويون يمثلونه على أمن السلطنة.
بيد أن السلطان كان يعلم أن مثل هذا التحرك ليس شأنا يسيرا، فالصفويون، في النهاية، وبالرغم من حربهم على الإسلام السني، يدعون الإسلام، وإعلان السلطنة الحرب على جار مسلم يمس من الشرعية العثمانية، التي أسست على حماية الإسلام وجهاد أعدائه.
لتحقيق هدفه، احتاج سليم الأول لغطاء ومسوغ إسلاميين؛ وهذا ما دفعه إلى الدعوة للقاء ضم عددا من كبار العلماء ووجهاء السلطنة.
لم يذكر المؤرخون العثمانيون الكلاسيكيون قائمة كاملة لكل من التحق باللقاء، ولكننا نعرف، على الأقل، أن شيخ الإسلام، وقاضي اسطنبول، والقاضيين الكبيرين للسلطنة، قاضي رومللي وقاضي أناضوللي، كانا من بين الحاضرين.
بخلاف المسيحية، لم تعرف التجربة الإسلامية، سيما الإسلام السني، المؤسسة الدينية. أنشأ العباسيون منصب قاضي القضاة، ولكن العلماء المسلمين اعتبروا القضاء شأنا دنيويا، أكثر منه دينيا؛ ولم يكن العلم شرطا ضروريا لتعيين القضاة، على أي حال.
حافظ العلماء المسلمون، مدرسين كانوا، أو مفتين، ومحتسبين، وحراسا للوقف، على لحمة الجماعة وصنعوا خطابها؛ ولكن العالم لم يكن مقدسا، وإجازته الفقهية لم تكن تكريسا بالمعنى الكنسي.
وتعارف المسلمون على أن فتوى عالم ما لم تكن بالضرورة ملزمة إلا لمن يقبلها، وأن العلم والتقوى هما معيار المفاضلة بين العلماء.
لم تتعدد المذاهب الفقهية في المجتمع المسلم، وحسب، بل وتعددت مصادر السلطة الفقهية داخل كل مذهب، كذلك.
وربما كانت مشيخة الإسلام العثمانية هي أقرب ما يمكن تصوره للمؤسسة الدينية في
تاريخ الإسلام.
تطور موقع شيخ الإسلام من مفتي إسطنبول، وأصبح باعتباره العالم الأبرز في نظام السلطنة المسؤول عن العلماء المنضوين في نظام الدولة الرسمي (لأن أغلبية طبقة العلماء لم تلتحق بالدولة)، وأهم علماء السلطنة وأكثرهم تأثيرا.
ولكن سليم الأول كان يعرف، على أية حال، أن شيخ الإسلام لا يملك مرجعية مطلقة، ولا سلطة مقدسة، وأن فتواه لم تكن لتكفي لتوفير المسوغ الشرعي للحرب ضد الصفويين.
وهذا ما دفع السلطان لعقد اجتماع لم يضم شيخ الإسلام، وحسب، بل وجماعة من العلماء الكبار الآخرين.
الحقيقة، أن علماء السلك الرسمي للسلطنة كانوا جميعا من العلماء الأحناف، كما أن موقع شيخ الإسلام احتله دائما فقيه حنفي. ولكن الانتماء المذهبي لبيروقراطية العلماء العثمانيين، بما في ذلك شيخ الإسلام، لم تؤثر، بأي صورة ملموسة، طوال قرون من حكم السلطنة، على التعددية المذهبية في المجتمع العثماني المسلم. كانت سلطة شيخ الإسلام، في جوهرها، وظيفية أكثر منها دينية.
منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأثناء القرن العشرين، أصبح التحكم المركزي في طبقة العلماء ضروريا لتعزيز سيطرة الدولة الحديثة وتوفير الشرعية لهذه السيطرة. لطبيعتها المركزية، لم تكن الدولة الحديثة لتترك واحدة من أكثر القوى الاجتماعية تأثيرا حرة، بدون إطار يحكمها ويحدد علاقتها بسلطة الدولة.
وهكذا، وبصورة تدريجية، تطورت مؤسسات مثل مشيخة الأزهر، المفتى الأكبر، هيئة كبار العلماء، وما يشبهها.
عرف منصب شيخ الأزهر، على سبيل المثال، للمرة الأولى في القرن الثامن عشر؛ ولم يكن عندها يحمل الإيحاءات الذي سيحملها بعد ذلك.
في جذوره، تعلق دور شيخ الأزهر، الذي اختاره علماء المعهد التعليمي الإسلامي العريق من بينهم، بحراسة أوقاف الجامع وتوزيعها بعدل على مصارفها الشرعية، وتنظيم العملية التعليمية والعلاقات بين علماء الجامع. خلال القرن التاسع عشر، أصبح منصبا شيخ الأزهر ومفتي مصر بالغي الأهمية لتوفير الشرعية للنظام الخديوي، سواء في مواجهة شعبه، أو في سعيه لكسب المزيد من الاستقلال عن سلطات اسطنبول، التي كانت لم تزل تعتبر مصر ولاية عثمانية.
لا يعني هذا بالضرورة أن مشيخة الأزهر تحولت لمجرد أداة طيعة في يد الدولة المصرية، الخديوية أو الملكية أو الجمهورية، كما أي من أدوات الدولة الأخرى.
فبالرغم من أن رياح التحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين قوضت الكثير من نفوذ طبقة العلماء وتأثيرها، إلا أن اعتزاز العلماء بتمثيلهم للدين وحراستهم الشريعة، جعل علاقة الأزهر بالدولة المصرية الحديثة مسألة بالغة التعقيد.
ولكن وبمرور الزمن، وخسارة طبقة العلماء معظم ما تبقى من نفوذها الاجتماعي ومصادر قوتها، اختلت العلاقة لصالح الدولة ونظام الحكم، سواء في ما تعلق بمشيخة الأزهر، مفتي البلاد، أو حتى العملية التعليمية ذاتها في الجامع الأزهر.
مأسسة طبقة العلماء في بلد مثل المملكة العربية السعودية، التي لم تبرز دولة إلا في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، كانت لاحقة لمصر؛ ولكنها سارت في الاتجاه ذاته، على أية حال.
المحاولة الأولى لمأسسة طبقة علماء المملكة اتخذها الملك عبد العزيز في خمسينيات القرن الماضي، عندما أنشأ موقع مفتي المملكة.
وللعلاقة الوثيقة بين العلماء من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأسرة السعودية، جاء معظم مفتي المملكة من آل الشيخ.
والمدهش أن الملك فيصل بن عبد العزيز، المؤسس الفعلي للدولة السعودية الحديثة، ألغى منصب المفتي في مطلع الستينيات ونقل وظائفه إلى وزارة العدل (ولم يتم إحياء المنصب من جديد إلا في منتصف التسعينيات، بقرار من الملك فهد).
ولكن فيصل اتخذ خطوة أبعد في مأسسة طبقة العلماء عندما أوجد هيئة كبار العلماء، وأخضع التعليم الإسلامي، بصورة تدريجية ومطردة، لسلطة الدولة.
تطور الحبل السري، الذي ربط مؤسسات العلماء المسلمين بالدولة الحديثة، في العقود القليلة الماضية، بفعل الحاجات الملحة للطرفين، إلى حبل غليظ، بدون أن يمنع ذلك من تمرد علماء أفراد، من حين إلى آخر.
وكلما عززت الدولة من شبكتها التحكمية بمؤسسة العلماء، كلما عملت على الاعتراف لها بسلطة مرجعية، وسعت إلى اضفاء شيء من القداسة على قياداتها.
وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب؛ فبدون سلطة مرجعية وبعض من القداسة، ما كان يمكن للدولة أن تفيد من هذه العلاقة، على أية حال؟
كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث