أكدت لجنة مناهضة
التعذيب بالأمم المتحدة (أعلى هيئة دولية أممية تعمل على مناهضة التعذيب في العالم) أن التعذيب في
مصر يتم ممارسته بصورة ممنهجة واعتيادية وبشكل واسع الانتشار، لافتة إلى تورط أفراد بالجيش المصري في عمليات التعذيب منذ ثورة يناير وحتى الآن، وهو ما يعتبر بمنزلة أول إدانة دولية تدلل بشكل واضح على مسؤولية أفراد بالمؤسسة العسكرية في ارتكاب جرائم التعذيب ضد المدنيين.
جاء ذلك في تقرير للجنة مناهضة التعذيب، تم نشره مؤخرا، عقب انتهاء الدورة الخاصة باللجنة التي اختتمت أعمالها منتصف آب/ أغسطس الماضي.
وخلصت اللجنة، في تقريرها، إلى أن "التعذيب يُمارس بصورة منهجية في مصر، لأن حالات التعذيب المفاد عنها لم تحدث بالمصادفة في مكان أو زمن معين، وإنما تعتبر اعتيادية وواسعة الانتشار ومتعمدة في جزء كبير من أراضي مصر".
وأوضحت أن المعلومات المقدمة من المنظمات غير الحكومية والنتائج التي توصلت إليها مصادر الأمم المتحدة، بما في ذلك المقرر الخاص المعني بالتعذيب، تُظهر اتجاهات فيما يتعلق بممارسي التعذيب وأساليبه ومكانه في مصر، كما تُظهر اتجاه إفلات الجناة من العقاب.
وذكرت أن "التعذيب، يحدث، أكثر ما يحدث، عقب عمليات الاعتقال التعسفية، وأنه يحدث في مقار الشرطة والسجون ومرافق أمن الدولة ومرافق قوات الأمن المركزي"، مؤكدا أن "المدعين العامين والقضاة ومسؤولي السجون، يسهلون أيضا التعذيب بتقاعسهم عن كبح ممارسات التعذيب والاحتجاز التعسفي وسوء المعاملة، أو عن اتخاذ إجراء بشأن الشكاوى".
واستطردت، لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة، قائلة: "يفلت مرتكبو أعمال التعذيب على الدوام تقريبا من العقاب، على الرغم من أن القانون المصري يحظر التعذيب والممارسات المتصلة به، ويُنشئ آليات محاسبة، الأمر الذي يدل على تضارب خطير بين القانون والممارسة".
وطبقا للتحقيق الذي أجرته لجنة مناهضة التعذيب، فإن التعذيب في مصر يتم على أيدي المسؤولين العسكريين، ومسؤولي الشرطة، ومسؤولي السجون.
وأعزت اللجنة في تقريرها إلى أن تعذيب المصريين يتم لأغراض منها معاقبة المتظاهرين، ومعاقبة مؤيدي وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين وتهديدهم (منذ عام 2013 وحتى الآن)، والحصول على اعترافات بالإكراه، والضغط على المعتقلين لتوريط غيرهم في الجرائم.
وذكرت اللجنة أن "ممارسة التعذيب ربما يسّرتها الزيادة الكبيرة في عمليات الاعتقال التي قامت بها السلطات منذ تموز/ يوليو 2013، وكذلك ممارسة احتجاز المتظاهرين في أماكن احتجاز غير رسمية"، لافتة إلى ممارسة ما وصفته بالعنف الجنسي من جانب موظفي الدولة واستخدام القوة المفرطة؛ ردا على التظاهرات منذ عام 2011، مما تسبب في آلاف الوفيات.
وأكدت اللجنة أن "إفلات مرتكبي أعمال التعذيب من العقاب واسع الانتشار، يسهله عدم وجود هيئة تحقيق مستقلة للنظر في شكاوى التعذيب، والاستخدام المفرط للمحاكم العسكرية، وعدم وجود رصد مستقل منتظم لأماكن الاحتجاز، وعدم استقلال المجلس القومي لحقوق الإنسان وقلة كفاءته".
وقدمت اللجنة توصيات عاجلة إلى مصر، منها أن تقضي فورا على ممارسة التعذيب وإساءة المعاملة في جميع أماكن الاحتجاز، وأن تكفل قيام كبار مسؤولي الدولة بإدانة بصورة علنية التعذيب وإساءة المعاملة من جانب موظفي الدولة، وأن تعتمد سياسة عدم التساهل مطلقا مع التعذيب، وأن تقاضي مرتكبي أعمال التعذيب، بمن فيهم أولئك الذين يتولون مسؤولية قيادية أو مسؤولية عليا.
ووفقا للمادة 20 (1) من اتفاقية مناهضة التعذيب الموقعة عليها مصر، فقد قامت لجنة مناهضة التعذيب بفتح تحقيق في مدى قيام السلطات المصرية بالعمل على تنفيذ اتفاقية مناهضة التعذيب.
الخط الزمني لتحقيق لجنة مناهضة التعذيب
ويعود بدء فتح التحقيق إلى آذار/ مارس من العام 2012 حينما قامت مؤسسة الكرامة ومقرها جنيف تدعي فيها المؤسسة أن التعذيب يُمارس بصورة منهجية في مصر. وتتضمن التقارير ادعاءات فردية عن التعذيب ووصفا لعدة أحداث جماهيرية. وذكّرت "الكرامة" بأن اللجنة كانت قد نشرت في عام 1996 موجزا لتحرٍ سابق، أُجري بخصوص مصر بموجب المادة 20، وأنها أكدت فيه أن قوات الأمن قد مارست التعذيب بصورة منهجية. وأرسلت "الكرامة" أيضا تقارير حديثة لعدة منظمات غير حكومية تتضمن ادعاءات إضافية بممارسة التعذيب.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، قضت اللجنة الأممية بأن المعلومات المقدمة موثوقة، وتتضمن إشارات ذات أساس من الصحة بأن التعذيب يمارس بصورة منهجية في مصر. ودعت اللجنة مصر إلى التعاون في بحث المعلومات وإبداء ملاحظاتها.
وفي شباط/ فبراير 2013، ردت مصر على اللجنة وأوضحت أن لديها آليات قانونية ومؤسساتية قائمة لمنع التعذيب والمعاقبة عليه. ونظرت اللجنة في هذا الأمر، إلى جانب معلومات إضافية قدمتها منظمات غير حكومية.
وفي 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2013، أرسلت الحكومة المصرية كتابا للرد على المعلومات الواردة من اللجنة، حيث أوضحت فيه مصر الضمانات الدستورية والتشريعية التي تحظر التعذيب.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، قررت اللجنة البدء في إجراء تحرٍ عملا بالمادة 20(2) من الاتفاقية. وأبلغت اللجنة مصر بذلك، وطلبت من الحكومة أن توافق على زيارة يقوم بها مقرراها المعيّنان، السيد دوماه والسيدة غاير.
وفي 16 كانون الثاني/ يناير 2014، أرسلت مصر كتابا ثانيا رفضت فيه مقبولية وموثوقية المعلومات التي قدمتها الكرامة. وأكدت أن التعذيب ليس ممارسة منهجية في مصر، وأنه يمكن أن تكون قد وقعت بعض حوادث التعذيب، إلا أنها حوادث فردية تُجري السلطات تحقيقا فيها.
وفي 8 أيار/ مايو 2014، اقترحت مصر إرسال ممثلين للاجتماع باللجنة وبحث حالة حقوق الإنسان في البلد.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، أبلغت اللجنة الدولة الطرف بأنه في حال عدم ورود رد إيجابي على طلب إجراء الزيارة من قبل أعضاء اللجنة، فإنها ستقوم، وفقا للإجراءات الاعتيادية، بإجراء تحرٍ سري من دون زيارة، وهو الأمر الذي تم بالفعل.
وفي 1 حزيران/ يونيو 2016، أرسلت الحكومة المصرية ردا على النتائج التي توصلت إليها اللجنة، وذكرت فيه أنه ما كان ينبغي للجنة أن تخلص إلى أن الدولة الطرف تمارس التعذيب بصورة منهجية بسبب عجزها عن الرد على الادعاءات المحددة التي قدمتها مؤسسة الكرامة، والتي قالت إنها تستند إلى إشاعات وتفتقر إلى أدلة داعمة.
وقبلت الدولة الطرف (مصر) الكثير من توصيات اللجنة، مؤكدة أنه يجري بالفعل تنفيذها، وقبلت جزئيا عدة توصيات أخرى أو أخذت علما بها.
ورفضت مصر توصيات اللجنة المتعلقة بإنهاء ممارسة الاحتجاز الانفرادي على الفور، وبإنشاء هيئة مستقلة للتحقيق في ادعاءات التعذيب والاختفاء القسري وسوء المعاملة، وقصر اختصاص المحاكم العسكرية على الجرائم التي تتصف حصريا بطابع عسكري، وإنفاذ حظر "كشوف العذرية" وإنهاء ممارسة الفحوص الشرجية الشرعية للأشخاص المتهمين بجرائم.
المعلومات الواردة إلى اللجنة بخصوص منهجية التعذيب
وتلقت اللجنة الأممية بين عامي 2012 و2015 سبعة بلاغات من مؤسسة الكرامة، تتعلق بممارسة التعذيب في مصر، وتتضمن على الأقل 146 ادعاء فرديا بالتعذيب، يعود تاريخ معظمها إلى عامي 2013 و2014، فضلا عن معلومات تتعلق بعدة شكاوى جماعية.
وتقول بلاغات "الكرامة" إن التعذيب ظل متفشيا في مصر من عام 2012 إلى عام 2015 على الرغم من العديد من التغييرات السياسية المهمة.
وإضافة إلى ذلك، نظرت اللجنة في معلومات تتعلق بالتعذيب في مصر واردة من مسؤولين وهيئات في الأمم المتحدة، بما في ذلك مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ولجنة حقوق الطفل، والمقرر الخاص المعني بالتعذيب، والفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي، ومن اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب. فهذه المصادر تؤيد الزعم بأن التعذيب مورس بصورة منهجية في مصر طوال فترة التحري.
واستعرضت اللجنة أيضا التقارير المتاحة علنيا التي وضعتها المنظمات غير الحكومية التالية: مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، ومنظمة العفو الدولية، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، وهيومن رايتس ووتش، والمجموعة المتحدة للمحامين والمستشارين القانونيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. وتتحدث التقارير بالتفصيل عن 94 حالة تعذيب فردية وقعت بين عامي 2011 و2015، وذكرت بعض المنظمات أنها تلقت الآلاف من الشكاوى.
من جهتها، قالت منظمة "كوميتي فور جيستس"، (منظمة حقوقية ومقرها جنيف)، إن التقرير الصادر من لجنة مناهضة التعذيب فيما يخص التحقيق الذي فتحته منذ العام 2012 الماضي بخصوص منهجية التعذيب في مصر، له من القوة والدلالة ما يظهر بشكل حاسم حول أن التعذيب يمارس بشكل ممنهج وتحت رعاية السلطات الحاكمة في مصر.
وأضافت – في بيان لها الجمعة- أن التحقيق الذي تم ونتائجه المنشورة في تقرير اللجنة بمنزلة أول إدانة دولية، تدلل بشكل واضح على مسؤولية أفراد من الجيش بارتكاب جرائم تعذيب المواطنين في مصر.
وقال الحقوقي المصري، أحمد مفرح: "تقرير لجنة مناهضة التعذيب مهم للغاية، وربما يكون له ما بعده، حيث إنه صادر من أعلى هيئة دولية في العالم مختصة بمناهضة التعذيب بداخل الأمم المتحدة"، مؤكدا أن التقرير سيكون بمنزلة بداية جديدة ومهمة في مواجهة جرائم التعذيب في مصر، باعتبارها جرائم ضد الإنسانية.
وأشار "مفرح" – في تصريح لـ"
عربي21"- إلى أن هذا التقرير هو الأول من نوعه، حيث لأول مرة تؤكد جهة دولية قيام منتسبي الجيش المصري بارتكاب جرائم التعذيب ضد المدنيين، مضيفا بأن نتائج التحقيق الأممي تمت بناء على تحقيقات سرية منذ عام 2012.
وتابع: "لا تقوم لجنة مناهضة التعذيب بفتح مثل هكذا تحقيقات، إلا إذا تلقت اللجنة معلومات موثوقا بها يبدو لها أنها تتضمن دلائل ذات أساس متين، تشير إلى أن التعذيب يمارس على نحو منهجي في إقليم دولة طرف في الاتفاقية، وتدعو اللجنة تلك الدولة الطرف إلى التعاون في دراسة هذه المعلومات، وتحقيقا لهذه الغاية، إلى تقديم ملاحظات بصدد تلك المعلومات، وهو ما حدث بالفعل، فالنتائج تمت بناء على إطلاع ومشاركة كاملة من جانب السلطات المصرية، ممثلة في وزارة الخارجية".