أعادتني التطورات الأخيرة في السعودية إلى نقاشات خلت... خضتها ولأكثر من مرة وعلى مدى سنوات طويلة مع زملاء جامعة وأصدقاء وأقارب وأبناء عمومة حول الخيارات الفقهية للمدرسة السلفية، وكيف أنها تعبر عن تصوراتهم وتفسيراتهم وفهمهم للدين، ولا تعبر عن الدين نفسه، فأحكام مثل وجوب تغطية المرأة وجهها، ومنعها من قيادة السيارة، وتحريم مشاركتها في العمل الطلابي والسياسي، هي مجرد اجتهادات فقهية غير ملزمة، وأن بعضها يستند لتقاليد وأعراف اجتماعية لا علاقة لها بالدين.
كانوا يضجون عليّ، ويرمون في وجهي فتاوى من هنا وهناك، متبعينها بسؤال: هل أنت أعلم منهم؟ ولم يعجبهم يوما ردي بأن هناك علماء أفتوا بغير ذلك.. ليتحول حديثهم إلى وصلة من الطعون المختلفة في علم وشرعية أولئك العلماء، ولم يكن يتردد بعضهم في إضفاء أوصاف غير لائقة عليهم، وكم كان يمقتني حينها استسهال بعضهم إخراج الخصوم من دائرة الاجتهاد والعلم.. وأحيانا من الدين نفسه؟
لذلك؛ لا أعرف ما هي "التخريجة" الفقهية التي سيلجؤون إليها اليوم في التعامل مع جملة القرارات الأخيرة للدولة السعودية من تهميش وإقصاء للشرطة الدينية المتمثلة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستبدال هيئة للترفيه بها، مرورا بالمشاهد والصور التي رافقت الاحتفالات باليوم الوطني -وهم ذاتهم الذين كانوا يستنكرون علينا الاحتفال بالمولد النبوي- وانتهاء بالسماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة.
هل سيختبئون تحت عبارات وجوب طاعة ولي الأمر، أم أنهم سيعمدون إلى إصدار فتاوى جديدة تتناسب مع متطلبات المرحلة؟
وكيف سيتعاملون لاحقا مع الهزات الارتدادية داخل المجتمع مع هذه الجرعة الضخمة من التحرر والانفتاح، التي وجد السعوديون أنفسهم أمامها على حين غرة.
على أن اللافت في كل هذا المشهد هو السياق الذي تأتي فيه كل هذه التطورات، وهل جاءت حقا استجابة للدعوات المتكررة منذ سنوات وسنوات لإجراء إصلاحات في المؤسسة الدينية الرسمية في بلاد الحرمين، لا سيما هيئة الأمر بالمعروف، التي طالما اتهمت بتنفير الناس من التدين ومن رجال الدين، وبالتعدي على حرية الناس، والتدخل في خصوصياتهم، أو بإعادة النظر في الكثير من القرارات المتعلقة بالمرأة.
أم أنها تأتي في سياق القرارات الارتجالية الساعية لإصدار شهادة "حسن سيرة وسلوك" وفق المعايير الأمريكية وإلباس السعودية ثوبا جديدا يقطع الصلة بالماضي ويخلصها من الإرث الثقيل من الاتهامات باحتضان الفكر الذي تنهل منه كل حركات التطرف والغلو والتشدد.
وأن الرياض ماضية حقا في تحقيق النبوءة التي بشر بها سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة من تشكيل حكومات علمانية في الخليج ؟
ولعل ما يجعل كثيرين يميلون للتفسير الثاني هو تلازم هذا الانفتاح المفاجئ مع حملة غير مسبوقة من القمع والاغتيال المعنوي تشهدها السعودية منذ نحو شهر طالت العديد من العلماء والدعاة والمثقفين، فكيف يستقيم تمهيد الطريق نحو افتتاح أول دار للسينما في بلاد الحرمين مع منع الناس من فتح أفواههم وحرمانهم حتى من حرية الصمت.
خصوصا أن أول شروط التقدم والتطور في الدول والمجتمعات تكمن أساسا في مدى احترامها لكرامة مواطنيها، وحقهم في إبداء رأيهم والتعبير عنه، والسماح لهم بالمشاركة في صياغة القرارات والتوجهات التي تمس حياتهم وأرزاقهم.
في النهاية، من حق السعوديات قيادة السيارة، ومن حق المجتمع السعودي أن يكون لديه مسرح وصالة للسينما، لكن ما نتمنى أن تطاله الحداثة والانفتاح بشكل حقيقي هو أسلوب الدولة بالتعامل مع الأصوات المعارضة والتوقف عن شن حملات التشهير والتخوين ضدها ونزع الوطنية عنها.
فمن غير المعقول أن يزج بعالم أو داعية له قدره ومكانته لدى الملايين داخل وخارج السعودية في زنزانة بائسة؛ لأنه دعا لتآلف القلوب بين أهل الخليج، أو لأنه صمت عن الاحتفاء بخطوات ولي الأمر، في الوقت الذي يغض الطرف على مشاهد التمايل المبتذلة لنساء ورجال على إيقاع أنغام صاخبة وهم يتشحون ويرفعون علما تزينه عبارة "لا إله إلا الله محمد رسول الله ".