هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"قبل أن ترتدي الحقيقة حذاءها تكون الكذبة قد سافرت حول نصف الكرة الأرضية".. هكذا قال الروائي الأمريكي مارك توين ذات يوم، ولربما لو أتيح له العيش في زماننا لكانت مقولته "قبل أن ترتدي الحقيقة حذاءها تكون "نظرية المؤامرة" قد سافرت حول الكرة الأرضية مرتين، فالعصر الحالي يكاد يشهد حالة طفرة عالمية في إنتاج وإعادة إنتاج وإبداع وابتداع نظريات مؤامرة لا حصر لها.. بل وتمتاز بأنها عابرة للحدود والهويات والأديان.
ورغم أن الشعور بالحيرة من الشغف الذي يبديه كثير من الناس بمصطلح "نظريات المؤامرة" طالما كان حاضرا معي لا سيما مذ دخلت عالم الإعلام قبل نحو عقدين إلا أن تلك الحيرة تحولت لاحقا إلى ما يشبه هاجسا مؤرقا لدي للسعي لفك طلاسم هذا اللغز وفهم ذاك الانحياز الذي يبديه كثيرون ـ وكأنه أشبه بسلوك فطري ـ تجاه التفسير الخفي أو الغامض لأي من الظواهر والأحداث من حولنا حتى لو كانت بسيطة ومباشرة ويسهل التعرف إلى المقدمات التي تسببت بها.
أذكر مثلا خلال الأشهر الأولى من انتشار فيروس كورنا ومع بدء الحديث عن سعي شركات دوائية عملاقة لتصنيع لقاح لذلك الفيروس الذي حصد مئات الآلاف من الأرواح وأصاب العالم حينها بالشلل وصلني على إحدى المجموعات العائلية على تطبيق واتساب فيديو لشخص ـ للمفارقة حتى الآن لا أعرف اسمه ـ يتساءل فيه عن سر كورونا، يتحدث ذلك الشخص بثقة عجيبة عن خبايا المؤامرة التي تحول دون الكشف عن سر ذلك الوباء الخبيث ويسرد وقائع عن عمليات اغتيال جرت وتجري لكل من يحاول الاقتراب من ذلك السر ـ يخلص في نهاية المقطع إلى أنهم الدولة السفليّة والماسونية والصهيونية واليمين المتطرف ورأس المال القذر.
أحد الضحايا المزعومين عالم تونسي في ألمانيا يدعى الكموني ظهر وقال ـ طبعا بحسب المتحدث بالفيديو ـ "أنا قادر أكتشف العلاج.. الدواء عندي يا إخوان" لكن وكما هو متوقع تم قتله بل وخرجت المستشارة الألمانية ـ حينها ـ أنجيلا ميركل لتقول إن الكموني لم يقتل بل توفي بجلطة قلبية.. "تخيلوا أن مستشارة ألمانيا بعظمتها طالعة تبرر ليش واحد مات" لماذا؟ "لسبب واحد أنها وحكومتها متورطين بقتل الكموني" هكذا تحدث الرجل وبكل ثقة.
هناك فرق كبير بين الحديث عن مؤامرة مرتبطة بشواهد حقيقية على حدوثها وهناك تخمينات رصينة لمن ينفذها وللطرف المستفيد من حصولها وبين التعلق بأستار نظرية وهمية ترتكز على تحليلات مطلقة في الهواء،
ورغم يقيني أن ما قاله هو مجرد هراء لكن أحببت أن أجتهد بالرد فبحثت عن الطبيب الكموني ليتبين أن القصة كلها خيالية فلا يوجد طبيب يحمل هذا الإسم قد توفي بظروف غامضة في ألمانيا والترجمة المنسوبة لتصريح مستشارة ألمانيا مفبرك ومضلل فهي كانت تتحدث عن إجراءات مكافحة الفيروس ولم تذكر شيئا عن الطبيب، وقد أرسلت هذه المعلومات حينها للجروب العائلي.
لاحقا وبعد يومين أرسل لي أحد الزملاء صورة لذات الشخص يسألني إن كان هذا هو وزير الصحة الأردني.. فأجبته سريعا لا، لكن لماذا تسأل فأرسل لي رابط يوتيوب لنفس مقطع الفيديو مع عنوان "وزير الصحة الأردني قرر مصارحة العالم ليُخلي ضميره ويقول شهادته لملايين" نظرت حينها لعدد المشاهدات فإذا بها قاربت المليونين، رغم أنه منشور من وقت قصير.
صدمت وقتها وتساءلت من جديد: لماذا يعشق الناس "نظريات المؤامرة"؟ لماذا لا يتريثوا قليلا قبل التسليم بأمر ما وبذل قليل من الجهد للتحقق منه، فأي بحث جاد أو حتى مجرد تدقيق بتروّي لكشف وجود ثغرات كبيرة في تلك الرواية؟
أنا لا أنفي طبعا وجود المؤامرات والدسائس وبأن مراكز قوى ولوبيات وشركات عابرة للحدود وقوى ضغط تقوم بذلك من أجل منافع ومصالح وأرباح ونفي وجود ذلك على الإطلاق هو وجه العملة الآخر للتعلق المرضي بالتفسيرات الخزعبلاتية للأحداث والظواهر من حولنا..
لكن هناك فرق كبير بين الحديث عن مؤامرة مرتبطة بشواهد حقيقية على حدوثها وهناك تخمينات رصينة لمن ينفذها وللطرف المستفيد من حصولها وبين التعلق بأستار نظرية وهمية ترتكز على تحليلات مطلقة في الهواء، مثلا لو كنت مواطنا في دولة يوجد بها فقط شركة اتصالات واحدة وتقوم بفرض أسعار مبالغ فيها لخدماتها ولا تلتزم بأي معايير للجودة في تقديمها كما يتم رفض دخول أي منافس لها إلى السوق، فإن الحديث عن وجود مؤامرة وعن مسؤولين فاسدين يتلقون رشى من تلك الشركة سيكون منطقيا جدا وإن كان إثباتها سيتطلب الكثير من التحقيق والجهد.
برأيي فإن العامل الرئيس في هذا التقبل الواسع لنظريات المؤامرة يعود أساسا لما يمكنني تسميته "بالقابلية للتضليل"، أي أن المشكلة الرئيسة ليست في كثرة المعلومات المضللة والمفبركة بل في قابليتنا لتصديقها، فالأكاذيب والإشاعات والأخبار المزيفة ستبقى إلى يوم الساعة لكن المشكلة الأساسية ستكون في العجز الداخلي لدينا في تمييز الغث والسمين وفي الاجتهاد في البحث عن المصداقية قبل التسليم بها، ولربما هذا الخلل نابع أيضا من النظام التعليمي الذي كبرنا من خلاله الذي يقوم على التلقين والحفظ وتكديس المعلومات دون أن يمكننا بناء أدوات تفكير وتحليل ونقد سليم.
إضافة ربما إلى المناخ السياسي الذي نشأ فيه أغلبنا البعيد عن الحرية وتعودنا فيه على غياب الثقة والشفافية والمصداقية في تصريحات وأعمال وأفعال السلطة لذلك كبرنا ونحن نشكك بكل ما هو قادم من أفواه النخب السياسية .
العامل الثاني هو وقوعنا في ما يسمى بفخ الانحياز التأكيدي، أي أننا لا نقوم بمتابعة أو قراءة إلا ما يتوافق أساسا مع أفكارنا المسبقة معتقدين أننا حقا نقوم ببحث موضوعي لكننا في حقيقة الأمر نحن ـ وهذا ميل فطري ـ نهتم بمعلومات تؤكد فقط ما نرتاح له وأننا نتجاهل كثيرا تلك المعلومات التي تحدّت أو خالفت أفكارنا المتصورة مسبقا، ونجد اليوم من هو مستعد أن يستشهد بفيديو لشخص مغمور لا يعرفه أحد أو بوست مجهول المصدر ويتمسك به وكأنه وصية والده الراحل لا لشيء إلا أنه يتوافق مع ما يحب أن يكون عليه الحال، مقابل إنكار الآلاف من التصريحات لخبراء وباحثين مختصين وعلماء معروفين أو مقالات ودراسات رصينة موثوقة المصدر تقول بعكس ذلك.
إن العامل الرئيس في هذا التقبل الواسع لنظريات المؤامرة يعود أساسا لما يمكنني تسميته "بالقابلية للتضليل"، أي أن المشكلة الرئيسة ليست في كثرة المعلومات المضللة والمفبركة بل في قابليتنا لتصديقها،
العامل الثالث وبحسب بعض الدراسات التي حاولت فهم وطبيعة الأشخاص الذين يؤمنون بنظريات المؤامرة فهو الاطمئنان الخفي الذي نشعر به حين نعتقد أن كل ما يجري من حولنا هي أفعال لجهات قوية ونافذة لا طاقة لنا بها وأننا "عاجزون" عن تغيير ذلك فما هي حيلتنا أمام قوى قادرة على شلّ العالم وقتل مئات الآلاف من البشر وإجبار دول عظمى على إغلاق حدودها و... الخ، لذلك سأقوم بمواصلة حياتي كما أنا ولا داعي لبذل أي جهد، ويتعاظم أثر هذا العامل عند أولئك الذين يشعرون أساسا "بعدم السيطرة على حياتهم" لا سيما أولئك الذين يمتلكون ثقة كبيرة بحدسهم "أكثر من الحقائق والبيانات" ولديهم قدرة غريبة على رؤية ارتباطات وعلاقات بين أشياء غير مترابطة "فلا شيء يحدث مصادفة" برأيهم.
ولعل أطرف ما قرأت عن نظريات المؤامرة أن هناك نظرية مؤامرة تقول إن مصطلح "نظرية المؤامرة" نفسه اخترع من قبل المخابرات الأمريكية CIA بهدف إقصاء أولئك الذين شككوا في الرواية الرسمية لاغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي.