هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شهد منتجع سوتشي الروسي قمة ثلاثية بين رؤساء روسيا وتركيا وإيران، في 22 تشرين الثاني/نوفمبر، وصف قبل عقده بأنه الاجتماع الحاسم حول مستقبل سوريا. وكان استدعاء بوتين لبشار الأسد، قبل يوم واحد فقط من انعقاد القمة الثلاثية، عزز الانطباع بأن الروس يهدفون إلى تحقيق توافق بين الدول الضامنة لمسار آستانة بشأن الخطوات الأخيرة لإنهاء الحرب في سوريا. حملت هذه التوقعات مبالغات كبيرة، بالطبع، لم تكن الأولى في السنوات الست المريرة من عمر الأزمة السورية، تماماً مثل تلك التي أحاطت بجنيف 1 وجنيف 2 في 2013 و2014، ولقاء آستانة الأول في كانون الثاني/نوفمبر 2017.
ثمة تغيير كبير في موازين القوى العسكرية لصالح النظام وحلفائه، بلا شك، كان أخذ في التبلور منذ بدأ التدخل العسكري الروسي المباشر في خريف 2015؛ وانهيار شبه كامل في سيطرة تنظيم «الدولة» (داعش) المناطقية في سوريا، كما في العراق. وهناك، في موازاة ذلك، تقارب حثيث في وجهات النظر بين روسيا وتركيا وإيران. ولكن، إلى هنا، وتنتهي المؤشرات على خلاص سوريا.
في الجهة المقابلة، تحولت سوريا بالفعل إلى مناطق حماية ونفوذ أجنبي، موزعة بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة، كما بين النظام وحلفائه الإيرانيين والميليشيات المسيرة من والتابعة لإيران وحزب الله. ومن الصعب تصور تخلي القوات المتمركزة في مختلف المناطق السورية عن مواقعها في القريب العاجل، حتى إن أحرز بعض التقدم في المسار السياسي؛ سيما أن حجم التوافقات السياسية لم يزل ضئيلاً إن قورن بحجم الخلافات وتباين وجهات النظر. البيان الأمريكي ـ الروسي في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، الذي أوحى باتفاق الدولتين الكبريين على مستقبل التسوية السورية، تبخر بعد أيام قليلة فقط من صدوره. وفي الوقت الذي قالت موسكو إن الوجود الأمريكي العسكري في سوريا غير شرعي، رد المسؤولون الأمريكيون بأنهم يخططون للبقاء في سوريا لأمد غير محدد، إن القوات الإيرانية هي التي يجب أن تنسحب، وإن مسار جنيف هو المسار الشرعي الوحيد. وبالرغم من الإيحاءات بوجود تفاهم ما بين موسكو والرياض، سيكون من السذاجة استبعاد عودة السعودية إلى سوريا بهدف إشعال معركة أخرى مع الإيرانيين، تلتحق بساحات الصراع المحتدمة، أو الآخذة في التفاقم، في اليمن ولبنان. وكان اجتماع الرياض 2 لقوى المعارضة السورية، بالرغم من توقعات مخالفة مسبقة، أعاد التوكيد على مطالب الشعب السوري باستبعاد الأسد ونظامه، بمجرد بدء مرحلة التسوية الانتقالية، مذكراً بعقدة العقد في المسار السياسي لحل الأزمة منذ الخطوات الأولى في جنيف 1.
حقيقة الأمر، أن ما أطلق الموجة الأخيرة من التفاؤل بشأن سوريا كان التقدم المطرد في طبيعة علاقات روسيا وتركيا وإيران. وإن كان لابد من استخدام تعبيرات أدق، فإن التغيير الأبرز طال الموقف التركي، أكثر مما طال موقفي روسيا وإيران. وربما يمكن القول إن المتغيرات التي طالت السياسة التركية في سوريا كانت التطور الأهم في مسار الأزمة خلال العام أو العامين الماضيين. لم تأت هذه المتغيرات من الأثر الهائل الذي أحدثه التدخل العسكري الروسي المباشر، وحسب، بل ومن شعور متزايد لدى أنقرة بأن الولايات المتحدة لن تقوم بمعادلة التدخل الروسي، وأن واشنطن تتبنى سياسة تحالف مع تنظيمات كردية إرهابية في سوريا، تمثل خيانة وطعناً في ظهر الحليف التركي. وكانت أنقرة علقت أمالاً كبيرة على أن إدارة ترامب ستتخلى عن السياسة التي تبناها اوباما في سوريا، ولكن ترامب ومسؤولي إدارته سرعان ما خيبوا الآمال التركية، وواصلوا توفير الدعم العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني (PYD) في سوريا، وذراعه العسكري المعروف باسم قوات حماية الشعب (YPG)، وبمعدلات أكبر ونوعية أعلى. وهناك أدلة متزايدة على تهريب سلاح أمريكي إلى تركيا، باتت تستخدمه وحدات من حزب العمال الكردستاني في الحرب ضد الدولة التركية.
إضافة إلى ذلك، كانت قوات أمريكية وفرت مظلة حماية للوحدات الكردية المسلحة في منبج، وغض الأمريكيون النظر عن سيطرة المسلحين الأكراد على مدينة الرقة العربية، كما غضوا النظر عن الاتفاق الذي عقده الأكراد مع «داعش» لإخلاء الرقة، وسمح بخروج المئات من عناصر «داعش» من المدينة ليمارسوا نشاطاتهم الإرهابية في مناطق أخرى، بما في ذلك تركيا.
صنعت خيبة الآمال التركية في السياسة الأمريكية تحولاً هاماً في أولويات تركيا في الجوار السوري، من دعم الثورة وتغيير نظام الحكم، إلى حماية المصالح القومية التركية المباشرة في ساحة الصراع السورية، ومن ما يشبه خوض حرب غير مباشرة مع إيران وروسيا، إلى تفاهمات متتالية مع الدولتين. المفترض، بالطبع، أن لا تكون التفاهمات التركية مع روسيا وإيران مجانية، وأن يحرص الأتراك على الحد الأدنى من الدور والمصالح في سوريا. فإلى أي يحد يمكن القول أن تركيا حققت هذا الحد الأدنى، سيما بعد انعقاد القمة الثلاثية؟
المدهش في قمة سوتشي أن هناك القليل جداً قد أعلن مما تم الاتفاق عليه بين الرؤساء الثلاثة، بالرغم من أن كلاً من بوتين، إردوغان، وروحاني حرص على التحدث إلى الإعلام بعد انتهاء الاجتماع الطويل الذي ضمهم. ليس ذلك وحسب، بل أن اجتماع الرؤساء عقد بعد اجتماعين ثلاثيين، ضم الأول وزراء خارجية الدول الثلاث، والثاني رؤساء الأركان، ويفترض أن الاجتماعين حددا خطوط وتفاصيل التوافقات، وما تطلب قراراً على مستوى الرؤساء. ما عرف، على أية حال، أن اتفاقاً أنجز على المشروع الروسي لعقد مؤتمر عام لكل قوى الشعب السوري وممثليه (ليس قريباً جداً، على أية حال)، الذي كان أجل مرات عدة من قبل، وأن هذا المؤتمر سيبحث مسألتي وضع دستور سوري جديد، وعقد انتخابات تحت إشراف أممي؛ إضافة إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية لجميع مناطق الصراع، والعمل على الإفراج عن آلاف المعتقلين السياسيين لدى النظام. بغير ذلك، لم يعرف الكثير.
ذهب الأتراك إلى القمة الثلاثية بعدد من الأهداف الأساسية، بما في ذلك توضيح الموقف الروسي ـ الإيراني من المرحلة الانتقالية؛ إبعاد الاتحاد الديمقراطي الكردستاني ومسلحيه عن أي حوار وطني سوري؛ الحصول على تأييد روسي لإخراج المسلحين الأكراد من مدن وبلدات الأغلبية العربية والتركمانية؛ سحب القوات الروسية من عفرين وإطلاق يد القوات التركية لطرد الوحدات الكردية؛ والاتفاق النهائي على أمن إدلب ووقف إطلاق النار كلية في المدينة وريفها. في اليوم التالي لعقد القمة الثلاثية، صرح ديمتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين، أن المعارضة التركية لمشاركة الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب في مؤتمر الحوار الوطني السوري لن تعرقل عقد المؤتمر. ولكن ما الذي يعنيه هذا، على وجه اليقين؟ هل يعني أن الرؤساء الثلاثة اتفقوا بالفعل على استبعاد التنظيمات الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، أو أن روسيا ستدعو ممثلي هذه التنظيمات، بغض النظر عن المعارضة التركية؟ ليس هناك من إجابة. وهذه مسألة واحدة فقط بين المسائل محل البحث. بمعنى، أن التفاهمات الثلاثية لم تزل هشة إلى حد كبير، وأنها على الأرجح تسير ببطء بالغ، ولم تصل بعد إلى التعامل مع عدد من المسائل الأكثر حساسية.