كتاب عربي 21

سوريا الجديدة ومعضلة الإرهاب والصهيونية

حسن أبو هنية
"عززت إسرائيل من انتشارها في المنطقة العازلة التي تخضع لإشراف قوات من الأمم المتحدة، ثم توسعت إلى الجانب السوري من جبل الشيخ"- الأناضول
"عززت إسرائيل من انتشارها في المنطقة العازلة التي تخضع لإشراف قوات من الأمم المتحدة، ثم توسعت إلى الجانب السوري من جبل الشيخ"- الأناضول
شكّل سقوط نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام"، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، مفاجأة لمعظم الخبراء والمراقبين. فلم تكن القوى الدولية والإقليمية الفاعلة المناصرة أو المناهضة لنظام دمشق تريد إسقاطه، فقد كانت المقاربة الأمريكية والإسرائيلية المناهضة للنظام ولحلفائه من الإيرانيين والروس ترى في وحشية النظام وطائفيته ضمانة تحول دون سقوط سوريا في حالة من الفوضى، وحتمية خضوعه لحكم إسلامي ربما أكثر وحشية وطائفية، وهو ما يهدد الأمن والاستقرار في سوريا والشرق الأوسط. وهي ذات الرؤية الكارثية المرعبة التي استثمر في سرديتها نظام الأسد لفرض سيطرته وإدامة حكمه، فعندما اقتربت الثورة السورية من الإطاحة بنظام الأسد عام 2015 فضلت الولايات المتحدة وإسرائيل تدخل روسيا، وتسامحت مع تدخل إيران، فقد اعتبر المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون أن انتصار الثورة السورية (الإسلامية السنيّة) وهزيمة نظام الأسد (العلوي الطائفي) يعدان بمثابة معضلة استراتيجية ويجلبان "كارثة" أكيدة، ما يخل بحالة الاستقرار الهش في المنطقة بعودة جماعات الإرهاب الإسلامي، وتهدد الأمن الإسرائيلي.

عندما التقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، بوفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في دمشق في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2024، كانت متلازمة أمن إسرائيل وحرب الإرهاب هي جوهر البحث والمداولة، فقد قالت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف عقب اللقاء إن الشرع التزم خلال الاجتماع في دمشق بعدم السماح للجماعات الإرهابية بالعمل في سوريا وتهديد الولايات المتحدة والدول المجاورة (إسرائيل)، وقالت باربرا ليف، التي ترأست الوفد الأمريكي، بعد اللقاء بأحمد الشرع في دمشق: "بناء على محادثاتنا، أبلغته أننا لن نتابع تطبيق عرض برنامج مكافآت من أجل العدالة الذي كان ساريا منذ سنوات عدة". وأضافت ليف: "رحبنا بالرسائل الإيجابية للشرع، ونريد إحراز تقدم بالاستناد على هذه المبادئ، من خلال أفعال وليس فقط أقوال".
محاربة الإرهاب وضمان أمن إسرائيل هو المعيار الأمريكي المميز بين الإرهاب والاعتدال، أما الاحتلال الإسرائيلي وتوسيعه وممارسة الإبادة والتطهير فهي مسألة ثانوية تقع في سياق حق الدفاع عن النفس

وكانت الولايات المتحدة على مدى عقود، ترتكز في مقاربتها للمنطقة على ضرورة مكافحة الإرهاب (الإسلامي) وضمان أمن إسرائيل (الصهيوني)، وكانت قد صنفت "هيئة تحرير الشام" منظمة إرهابية، ووضعت وزارة الخارجية الأمريكية الجولاني على لوائح الإرهابي العالمي منذ أيار/ مايو 2013. وعرضت وزارة الخارجية من خلال برنامجها "مكافآت من أجل العدالة"، ما يصل إلى 10 ملايين دولار مقابل معلومات عن الشرع.

محاربة الإرهاب وضمان أمن إسرائيل هو المعيار الأمريكي المميز بين الإرهاب والاعتدال، أما الاحتلال الإسرائيلي وتوسيعه وممارسة الإبادة والتطهير فهي مسألة ثانوية تقع في سياق حق الدفاع عن النفس. فمنذ اليوم الأول لسقوط نظام الأسد، عززت إسرائيل من انتشارها في المنطقة العازلة التي تخضع لإشراف قوات من الأمم المتحدة، ثم توسعت إلى الجانب السوري من جبل الشيخ الاستراتيجي المطل على دمشق، وشن الطيران الإسرائيلي سلسلة هجمات على عشرات الأهداف الإستراتيجية في المناطق السورية. وقد بررت إسرائيل عدوانها بالسعي لاستهداف مخزونات الأسلحة الاستراتيجية والبنية التحتية العسكرية في سوريا لمنع المعارضة التي أطاحت الأسد من استخدامها.

وقد وافقت الحكومة الإسرائيلية بالإجماع على خطة نتنياهو بتوسيع المستوطنات في الجولان في "ضوء الحرب والجبهة الجديدة مع سوريا"، وسرعان ما دافع مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان عن العمليات التي تنفذها إسرائيل في سوريا منذ سقوط الرئيس بشار الأسد باعتبارها استراتيجية دفاعية استباقية، وقال: إن إسرائيل "تملك الحق في الدفاع عن نفسها في مواجهة المخاطر التي تهدد أمنها".

تمنح الولايات المتحدة المستعمرة الإسرائيلية بكل ما تحتاجه من دعم عسكري ومالي ودبلوماسي لتوسيع نفوذها وسيطرتها، فكلاهما يؤمن بمبدأ لا أخلاقي يستند إلى فرض "السلام بالقوة". فدون أي اكتراث للقانون الدولي أو الشعور الأخلاقي قرر الرئيس دونالد ترامب إبان رئاسته الأولى الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان في 25 آذار/ مارس 2019، فإسرائيل والولايات المتحدة قررتا وحدهما أن مرتفعات الجولان أراض إسرائيلية، وهما قد يفعلا ذلك قريبا حيال أجزاء شاسعة من الضفة الغربية أيضا. فقرار ضم الجولان بالقوة واحتلال المزيد من الأراضي السورية والعربية يقع في سياق الفكر الإمبريالي الأمريكي والاستعماري الصهيوني، وهي خطوات مستأنفة لخطوات سابقة بدأت منذ تأسيس الكيان الاستعماري الصهيوني، واستمر مع الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية، مرورا بوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التي تساعد اللاجئين الفلسطينيين، ثم الشروع بإلغائها، وصولا إلى إغلاق القنصلية العامة الأمريكية في القدس والمكتب التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن العاصمة.

لم تكتف المستعمرة الصهيونية بجهود الإمبريالية الأمريكية بفرض اندماج إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، وإخضاع دول عربية عدة لعملية تطبيع مذل، بل تبشر المستعمرة اليوم بالتوسع والانتقال إلى فرض نفسها القوة الوحيدة المهيمنة في المنطقة عن طريق القوة والبطش، وتتباهى بإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهو ما يمثل جوهر المدركات السياسية الصهيونية القائمة على فرض السلام بالقوة.

فمرتكزات الأمن الصهيوني منذ تأسيس دولة "إسرائيل" يقوم على نسخة مُحدثة من فكرة "الجدار الحديدي" التي وضعها الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي، مؤسس الحركة الصهيونية التصحيحية الذي جادل في أحد مقالاته عام 1923 بأن الاستيطان اليهودي لفلسطين يجب أن يمضي قدما خلف "جدار حديدي" من التفوّق العسكري الإسرائيلي الكاسح. فالجدار الحديدي يعني أن القوة الصلبة يحب أن لا تذعن إلى أي ضغط عربي، وحسب جابوتنسكي فإن "الوسيلة الوحيدة للوصول إلى أي اتفاقية في المستقبل، هي التخلي عن كل فكرة تسعى إلى إبرام اتفاقية في المرحلة الراهنة"، وهو ما تقوم به إسرائيل اليوم بتوسيع احتلالها للأراضي العربية وفرض وقائع جديدة على الأرض، ثم فرض الوقائع الجديدة من خلال استراتيجية "السلام بالقوة" على كافة دول المنطقة.

إن السيناريو المفضل للولايات المتحدة وكيان الاحتلال الصهيوني في المنطقة وسوريا هو التفتيت والتقسيم وخلق كيانات هشة ضعيفة على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة من خلال كيانها اليهودي العنصري. ففي سوريا تتحقق رؤيتها من خلال تأسيس دويلات هشة وضعيفة على أسس عرقية إثنية ومذهبية دينية، وهي ذات الرؤية الاستعمارية التقليدية. وقد كشف الكاتب والمحلل السياسي الأبرز في صحيفة "يديعوت أحرونوت" ناحوم برنياع، أن أُمنية "إسرائيل" هي رؤية سوريا مقسمة إلى بضعة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الشمال الغربي، ويعتقد برنياع أن "إسرائيل" راضية عن انهيار النظام في سوريا ومن تداعياته على لبنان وعلى المنطقة كلها، لكنها قلقة من تثبيت النظام الجديد. ويضيف: "مغازلات الجولاني، رئيس النظام الجديد، لحكومات غربية، وتصريحاته المعتدلة تجاه إسرائيل لا تهدئ روع أحد".
لم تكن الولايات المتحدة تكترث بحرب الإبادة والتطهير التي يشنها نظام الأسد وحلفائه ضد الشعب السوري المنتفض، فالنادي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية كقوة إمبريالية لم يكن من أجندته يوما دعم ثورة سوريا بل إجهاضها، فالأهداف الإمبريالية الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة تقوم على حماية أمن واستقرار إسرائيل

وقد قالت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي شيرين هاسكيل في مقابلة مع قناة بلومبيرغ: إن قادة سوريا الجدد هم "ذئاب في ثياب حملان"، يحاولون إقناع العالم بأنهم ليسوا إسلاميين متطرفين، وأضافت: "نحن لا نخدع بالكثير من الأحاديث والمقابلات التي تقوم بها تلك الجماعات المتمردة، التي هي في الواقع مجموعات إرهابية".

لم تكن الولايات المتحدة تكترث بحرب الإبادة والتطهير التي يشنها نظام الأسد وحلفائه ضد الشعب السوري المنتفض، فالنادي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية كقوة إمبريالية لم يكن من أجندته يوما دعم ثورة سوريا بل إجهاضها، فالأهداف الإمبريالية الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة تقوم على حماية أمن واستقرار إسرائيل، فالمستعمرة الإسرائيلية هي التي تحدد أولويات السياسة الأمريكية، فسقوط أكثر من نصف مليون شهيد سوري بأبشع طرق الموت من البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية لم تكن مسألة مهمة، فضلا عن إصابة أكثر من مليوني شخص بإصابات تسببت لكثير منهم بإعاقات دائمة، إضافة إلى نحو مائة ألف قتلوا جراء التعذيب خلال اعتقالهم في سجون النظام، ووجود نحو مائة ألف آخرين رهن الاعتقال، ولا تهجير نحو 13 مليون شخص إلى مناطق اللجوء والنزوح داخل البلاد وخارجها.

إن تصورات الولايات المتحدة الأمريكية للشرق الأوسط تحددها منظورات الدولة الاستعمارية الصهيونية، وهي تصورات مشتركة تستند إلى التفوقية العرقية والعنصرية، وتقوم على صناعة "الإرهاب" فقد اخترع مفهوم "الإرهاب" في العصر الإمبريالي ومنتجه الصهيوني لمواجهة أي مقاومة تتحدى الهيمنة الإمبريالية الأمريكية والسيطرة الاستعمارية الصهيونية، ويعرّف "الإرهاب" على أسس استشراقية وثقافوية. فالإرهاب كتسمية يكافئ "الإسلام" الذي يعد عدوا يمثل البريرية والهمجية والرجعية في مواجهة الحضارة الغربية وعقيدة التقدم الرأسمالية الليبرالية، فسياسة الحرب على الإرهاب قيمة مشتركة بين الإمبريالية الأمريكية والاستعمارية الإسرائيلية، فالإرهاب مجرد بناء سياسي اجتماعي يعني في المعجم الإمبريالي والصهيوني كل ما يقف في طريق تحقيق الولايات المتحدة وإسرائيل طموحاتها بالهيمنة ويتحدى ويقاوم مصالحها الإمبريالية والاستعمارية.

تشير الطريقة التي بموجبها تضع الولايات المتحدة منظمة على قائمتها الخاصة بالإرهاب، إلى الطبيعة السياسية للتصنيف الإرهابوي، فببساطة بالغة يمكن وضع أي جماعة أو مجموعة أو منظمة على القائمة وبنفس السهولة يمكن رفعها، إذ يُعد شطب جماعة من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية أمرا سهلا نسبيا، كما هو موضح في الصفحة الرئيسية لوزارة الخارجية الأمريكية على شبكة الإنترنت المتعلّقة ببرنامج المنظمات الإرهابية الأجنبية.
المتطلبات الأمريكية والغربية هي وصفة كاذبة للهيمنة والسيطرة، فما هو مطلوب من سوريا الجديدة لا علاقة له بتحقيق قيم العدالة والحرية، بل يتعلق بمطلب الخضوع للمستعمرة الصهيونية وقبول السلام عبر التسليم بالقوة الأمريكية، والتعايش مع دولة الجدار الحديدي وكيان الفصل العنصري، والسير على خطى عرب التطبيع المذل، وهو ما لا يمكن لسوريا الجديدة قبوله بعد أن تحررت من الدكتاتورية وخبرت الإمبرياليات التوسعية والاحتلالات الصهيونية

فمنذ إنشاء القائمة، تم شطب عشرين جماعة، ويمكن شطب جماعة عن لوائح الإرهاب إذا قرر وزير الخارجية الأمريكي أن الظروف الأصلية التي أدت إلى التصنيف قد تغيّرت بما يكفي لتبرير إلغائها، أو أن مصالح الأمن القومي الأمريكي تبرر إلغاءها، وببساطة أكبر، يتمتع الوزير بسلطة "إلغاء التصنيف في أي وقت". كما يمكن إلغاء التصنيفات الخاصة بالإرهاب العالمي التي صدرت بموجب "الأمر التنفيذي رقم 13224"، فالمحدد هو المصلحة القومية الأمريكية، وهي مصلحة تتحدد في الشرق الأوسط بالرغبة والإرادة الإسرائيلية.

خلاصة القول أن سوريا الجديدة سوف تبقى رهينة للتصورات الأمريكية التي تحددها المستعمرة الصهيونية، تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، وسوف تبقى الإدارة الأمريكية مخلصة في تأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وتلبية المتطلبات الإسرائيلية من خلال القوة والغطرسة من خلال مبدأ فرض السلام بالقوة، الذي يجسد عقيدة "الجدار الحديدي" الصهيوني، ومهما قولبت "هيئة تحرير الشام" من أيديولوجيتها وبعثت برسائل تطمينية للعالم ودول المنطقة، لن تحصل على الرضى والقبول الأمريكي الإسرائيلي، وسوف تبقى تحت وطأة الضغوطات والتخريب تحت ذريعة حرب الإرهاب، وستبقى المطالبات الأمريكية حاضرة بمزيد من المعايير الملموسة وبشكل حاسم دون انقطاع، وهي مطالبات ظاهرها الرحمة بضرورة الحكم الشامل، واحترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وحقوق النساء، والانتخابات الشفافة، وتفكيك الشبكات المتطرفة، ومحاربة الإرهاب، والامتثال الكامل لحظر الأسلحة الكيميائية، وفي جوهرها تعني الخضوع والإذعان بضمان أمن أمريكا وإسرائيل.

وللمفارقة، فإن هذه المعايير لا تتوافر في أي بلد عربي ولا شرق أوسطي، وهي غير موجود في دولة الكيان الاستعماري العنصري. فالمتطلبات الأمريكية والغربية هي وصفة كاذبة للهيمنة والسيطرة، فما هو مطلوب من سوريا الجديدة لا علاقة له بتحقيق قيم العدالة والحرية، بل يتعلق بمطلب الخضوع للمستعمرة الصهيونية وقبول السلام عبر التسليم بالقوة الأمريكية، والتعايش مع دولة الجدار الحديدي وكيان الفصل العنصري، والسير على خطى عرب التطبيع المذل، وهو ما لا يمكن لسوريا الجديدة قبوله بعد أن تحررت من الدكتاتورية وخبرت الإمبرياليات التوسعية والاحتلالات الصهيونية.

x.com/hasanabuhanya
التعليقات (0)