لا تزال أصداء كتاب "نار وغضب"، الذي نشره الصحفي الأمريكي المخضرم مايكل وولف، تتردد في العالم، حيث إنه كشف، ولأول مرة، جانبا تفصيليا مهما من الشخصية غير المتزنة لرئيس الولايات المتحدة التي تحكم العالم، وهي الشخصية التي تحدثت تقييمات عامة عنها منذ تسلم ترامب رئاسة بلاده؛ منذ نحو عام.
وركزت القراءات التي وردت في الكتاب، في الغالب الأعم منها، على تشكيلة إدارته التي لم تستقر على حال بسبب إقالته لعدد من المقربين منه، وسياساته غير المتزنة في التعامل مع القضايا الخارجية، وكذلك شخصيته السطحية المتكبرة، وعنجهيته المرتبطة بالجهل، وعدم الأهلية لقيادة الدولة، وسيطرة بعض الشخصيات في البيت الأبيض عليه.
التضحية بالقدس
إلا أن أكثر ما يهمنا هو كشفه لموقفه المسبق من القدس، والذي أصر عليه منذ بداية انتخابه وحتى قراره الأخير بالاعتراف بها عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها.
أكثر ما يهمنا هو كشفه لموقفه المسبق من القدس، والذي أصر عليه منذ بداية انتخابه وحتى قراره الأخير بالاعتراف بها عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها
ومن المهم الإشارة هنا، إلى أن هذه الخطوة لم تكن لتتحقق لولا موافقة كل من السعودية ومصر عليها، حيث استغل ترامب سعي
ابن سلمان لتكريس وراثة العرش؛ لابتزاز التنازلات منه، وهو نفس الموقف الذي اتخذته مصر بالتعاون مع السعودية، وكشفته الاتصالات التي جرت بين موظف استخبارات مصري بإعلاميين مصريين؛ داعيا إياهم لتجاوز خطوة نقل السفارة للقدس، حسبما جاء في تسريبات صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية!
وأخطر دلالة في هذا الموقف؛ أن الدول العربية الرئيسية مستعدة للتفريط بكل المقدسات في سبيل الحفاظ على عروشها ومكتسباتها، واستخفافها واحتقارها لشعوبها وردود فعلها المحتملة حين المس بمقدساتها وقيمها، الأمر الذي يستدعي من المعارضة مراجعة مواقفها وطريقة عملها المسالمة جدا للأنظمة العربية.
هذه الخطوة لم تكن لتتحقق لولا موافقة كل من السعودية ومصر عليها
لقد استفزت خطوة واشنطن تجاه
القدس؛ الحراك الشعبي الذي عبر عن غضب في المنطقة العربية والإسلامية، إلا أن ذلك لم يتبلور لخطوات تصعيدية سياسية من قوى المعارضة؛ تضع الأنظمة في الزاوية الحرجة أو تدفعها لتصعيد موقفها اللفظي مما جرى إلى موقف عملي. ولم يترجم ذلك أيضا في المنطقة العربية لخطوات تعيد إحياء الربيع العربي في المنطقة!
وما لم يتحقق ذلك، فهناك شك كبير في أن تؤدي التحركات لوضع حد لما يسمي بصفقة القرن؛ التي تريد تصفية قضية اللاجئين وتشرعن المستوطنات في الضفة.
توطين لاجئين ونسف الدولة الفلسطينية
ويبدو أن الرئيس الأمريكي الأهوج لا زال يمد قرونه ليستفز الأمة أكثر وأكثر، طالما أنه ضرب المقدس الأول والأهم لديها؛ دون ردود فعل قوية قادرة على فرملة القرار. فها هو - حسب الكتاب - يتحدث عن تصفية القضية الفلسطينية، وعلى الأخص إنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين، والقضاء على مشروع الدولة الفلسطينية الذي قامت عليه اتفاقية أوسلو وما بعدها.
يتحدث ترامب عن تصفية القضية الفلسطينية، وعلى الأخص إنهاء قضية اللاجئين الفلسطينيين، والقضاء على مشروع الدولة الفلسطينية الذي قامت عليه اتفاقية أوسلو وما بعدها
ونقل عنه القول: "دع الأردن يأخذ الضفة الغربية، ومصر تأخذ غزة. دعهم يتعاملون مع الأمر، أو يغرقون وهم يحاولون ذلك. فالسعوديون على وشك الانهيار، والمصريون على وشك الانهيار، وكلهم يكادون يموتون فزَعاً من بلاد فارس".
إذن، هي بكل بساطة إلغاء للدولة الفلسطينية، ونسف كل الاعترافات العربية والعالمية بها، وبالتالي إلغاء اتفاقات السلام الموقعة منذ العام 1993، وإلغاء السلطة الفلسطينية، وتوزيع الفلسطينيين على مصر والأردن.
ويعبر ذلك عن قمة الاستخفاف بالدول العربية، وبكل ما مر على المنطقة من صراع عربي- إسرائيلي، وهو الأمر الذي أدى إلى ردة فعل أردنية غاضبة للتكاليف التي ستتحملها بسبب هذا المشروع، وتضييع الولاية الدينية للهاشميين على المقدسات الإسلامية في القدس. ومع ذلك، لم يخرج الموقف الرسمي عن استمرار المطالبة بالسلام والتسوية!
هذه الدول العربية بلعت هذا الموقف، وعملت على تسويق الموقف الجديد من القدس، الأمر الذي يغري الرئيس الأمريكي؛ بالمزيد من الخطوات التي تؤدي إلى إضعاف مواقف هذه الدول أكثر فأكثر
والمشكلة أن هذه الدول بلعت هذا الموقف، وعملت على تسويق الموقف الجديد من القدس، الأمر الذي يغري الرئيس الأمريكي غير المتزن عقليا؛ بالمزيد من الخطوات التي تؤدي إلى إضعاف مواقف هذه الدول أكثر فأكثر.
وينطبق ذلك على السلطة الفلسطينية التي لم تغادر مربع أوسلو، رغم معارضتها لقرار ترامب، واستمرارها في التنسيق الأمني مع العدو ضد المقاومة الفلسطينية.
يمثل كل ذلك قمة الانحطاط في المواقف العربية الرسمية، وضعفا في المواقف الشعبية، بما يؤدي إلى تعزيز منطق ترامب البلطجي؛ الذي يستند لإرضاء إسرائيل وامتصاص غضبة العرب من خلال الضغط المتواصل على الزعماء.
تواطؤ يغري ترامب
وكان يمكن فهم ضعف مواقف الدول العربية من خطوة اعتبار القدس عاصمة للاحتلال، فنحن لم نعتد من الأنظمة مواقف أكثر من ذلك، ولكن أخطر ما في الأمر هو تواطؤ بعض الأنظمة العربية مع القرار تحت مسوغات مختلفة.
ترامب الذي اعتبر أن الحكم في كل من السعودية ومصر غير مستقر، بسبب الخوف من إيران ودورها في المنطقة، كشف في الوقت ذاته عن علاقته مع ابن سلمان الذي وجد ترامب ضالته فيه
فترامب الذي اعتبر أن الحكم في كل من السعودية ومصر غير مستقر، بسبب الخوف من إيران ودورها في المنطقة، كشف في الوقت ذاته عن علاقته مع ابن سلمان الذي وجد ترامب ضالته فيه، في ظل استعداده لتقديم التنازلات المطلوبة للحصول على موافقة أمريكية على خلافته لأبيه، في مواجهة الأمير متعب. وهذا ما حصل في الموقف من القدس، وما حصل في حصار قطر وتهديد وجودها بسبب دعمها للربيع العربي!
أما النظام العسكري المصري، فهو أضعف من أن يقف ضد ترامب؛ لأن هذا النظام ليس لديه الشرعية الكافية داخليا، ولا الأهلية العسكرية للتعامل مع تهديدات داعش في سيناء. كما أن
السيسي مقبل على انتخابات رئاسية جديدة يحتاج فيها لتجديد الدعم الأمريكي له، في ضوء المعارضة المتزايدة له في الداخل.
وفيما يتعلق بإيران، يتحدث ترامب عن تحالف سعودي مصري إسرائيلي لمواجهة إيران التي يريد تحويل الصراع مع إسرائيل إلى صراع معها، وذلك لمجرد أن إيران قد تمثل تهديدا للمصالح الأمريكية في المنطقة أو تعمل ضد إسرائيل.
يأتي ذلك فيما تنشغل طهران بحروبها الطائفية في المنطقة دون أن تتوقف للحظة لتسأل نفسها: لمصلحة من تخوض هذه الحروب
يأتي ذلك فيما تنشغل طهران بحروبها الطائفية في المنطقة دون أن تتوقف للحظة لتسأل نفسها: لمصلحة من تخوض هذه الحروب؟ وتصل إلى استنتاج مفاده أن التحامها بالأمة بغالبيتها السنية الجارفة؛ هو الحماية الأكبر لها، ويؤدي إلى المزيد من كشف تواطؤ بعض الأنظمة مع إسرائيل، وتدرك في النهاية أن السلاح والعتاد الذي تمتلكه لا قيمة له، ما لم تكن متصالحة مع محيطها.
هل من غضب عربي؟
تشير المعطيات السابقة إلى أن مخزون الغصب لدى الأمة لم يتبلور كما يجب في الدفاع عن مقدساتها؛ لظروف وأسباب متعددة أشرنا لها. كما تشير إلى تواطؤ مكشوف جديد لأنظمة عربية؛ ضحت بمقدساتها في سبيل طموحات ومكاسب شخصية.
وفي ضوء هذا وذاك، يجد "مجنون القرن" فرصة لبلورة "صفقة القرن"؛ تصب في كل مجاريها لصالح العدو الإسرائيلي
وفي ضوء هذا وذاك، يجد "
مجنون القرن" فرصة لبلورة "صفقة القرن"؛ تصب في كل مجاريها لصالح العدو الإسرائيلي.
قد تطيح الدولة العميقة بترامب، أو يطيح به مستشاروه الغاضبون، ولكن انتظار حدث قد يحصل أو لا يحصل؛ هو قمة العجز. إذ لا بد أن تكون قضية القدس هي الكاشفة الفاضحة، وهي المحرك لهبات شعبية تهز الأنظمة، وتوصل رسالة لمجنون البيت الأبيض بأنه لا بد له من أن يحسب حسابا لهذه الأمة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمس بمقدساتها.