هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
جرت العادة عشية تحديد ميزانية الدولة الإسرائيلية بصورة سنوية أن
ينشب الصراع على "توزيع الكعكة"، حيث توجه للجيش اتهامات من جهات مختلفة
بالتبذير في صرف الأموال، خاصة في جانب القوى البشرية، والصرف على رواتب الجيش
النظامي، وشروط العمل، والامتيازات التي يحصل عليها الضباط، وكبار الجنرالات، وعدم
النجاعة في الجانب التنظيمي والإداري في الجيش، ما يعد سببا في التبذير.
وللتعرف
على الطريقة التي يسلكها الجيش الإسرائيلي في الحصول على ميزانيته وزيادتها، يدخل
جلسة الحكومة عشرون ضابطا رفيعا، مزودين بأجهزة حواسيب محمولة مطورة، ويعرضون على
الحكومة تقديرات استخبارية مخيفة، ولوح للعرض فيه أسهم حمراء، موجهة مباشرة إلى
قلب "إسرائيل": من إيران، سورية، لبنان، الأراضي الفلسطينية، فيصاب
الوزراء بالخوف والهلع، ويتنهد رئيس الحكومة ويخضع.
ويوجد لهذا العرض الكبير أمام الحكومة مرحلة سابقة، وهي إعداد الرأي
العام، وفي هذه المرحلة يشارك عدد من الصحافيين، وينشرون أنباء مختلقة تحتل عناوين
ضخمة، في هذه السنة تحديدا نشرت أنباء عن إيران وحزب الله وحماس وتنظيم الدولة
والقاعدة، وعن الحرب المتوقعة مع أي من هذه الجهات المعادية.
تضم ميزانية الأمن مركباته في الوزارات والمؤسسات الحكومية، خاصة
الأجهزة الاستخباراتية، ووزارة الأمن الداخلي كالشرطة وما يرتبط بها، والصرف على
الاستيطان في الضفة الغربية وهضبة الجولان المحتلة، وبالتالي فإن تكلفة الأمن في
"إسرائيل" تستهلك 30% من ميزانية الدولة.
علما بأن الميزانية العسكرية الإسرائيلية كبيرة جدا مقارنة مع
ميزانيات مشابهة حول العالم، وتساوي ميزانيات دول غنية مثل كندا وأستراليا، وعلى
مستوى الشرق الأوسط تساوي ميزانية تركيا، التي تبلغ مساحتها وعدد سكانها أضعاف
"إسرائيل"، لكنها أقل من السعودية، وأعلى من مصر وإيران، حيث تساوي
الميزانية العسكرية للجيش والأذرع الأمنية الإسرائيلية 8% من الناتج القومي للدولة.
وفقا لما درجت عليه العادة، ترتكز المصادقة على ميزانية
"إسرائيل" العسكرية على الاعتبارات التالية:
أ-
الأخطار الأمنية التي تواجهها الدولة، ومدى التطبيق الفعلي لهذه الأخطار، والأضرار
المتوقعة الناجمة عنها.
ب- وسائل الرد الممكنة على هذه الأخطار، والفترة الزمنية الضرورية
للاستعداد لمواجهتها.
ج- تكلفة وسائل الرد هذه على مستوى ميزانية الجيش، وعلى مستوى
الميزانيات الأخرى في الوزارات المختلفة، وحجم ضررها على مستوى النمو الاقتصادي،
وفرص العمل والتشغيل، والاستقرار الاقتصادي، والمستوى المعيشي.
د- العلاقة بين وسائل الرد والأخطار، وإلى أي مدى ستؤدي لزيادة
ميزانية الجيش، وما إذا كانت ستجر إلى حلبة سباق التسلح، أو على العكس، بمعنى مدى
تراجع خصوم "إسرائيل" عن إمكانيات المهاجمة.
هـ- دور النشاط العسكري في ظهور تأثيرات خارجية مرجوة، كتأهيل قوى
عاملة مدربة للعمل لاحقا في القطاع المدني، أو تأثيرات غير مرجوة، كالمس بالبيئة،
وكيف يتم تقدير هذه التأثيرات.
يدور
الجدل الدائر في "إسرائيل" حول تحديد ميزانية الجيش، بين مجموعتين، لهما
جدول أعمال مختلف:
من
جهة يقف ممثلو الجيش ووزارة الدفاع يرون أنفسهم مسؤولين عن أمن الدولة، ويعرضون
الاحتياجات الضرورية برأيهم لضمان مستوى عال من الأمن.
فيما يرى ممثلو وزارة المالية، وقسم الميزانيات، أنفسهم مسؤولين عن
جوانب أخرى في الميزانية، وعن دافعي الضرائب والاستقرار الاقتصادي، وهي جوانب هامة
جدا تساهم بتأمين ميزانية الجيش، وفي هذا الجدل هناك وزن كبير لمسائل أخرى،
كالمستوى المعيشي في الجيش، وسبل خلق محفزات لإدارة مالية ناجعة أكثر فيه.
توقف تقرير "مراقب الدولة" عند الفشل الجوهري في التحضير
لميزانية الجيش، ومما جاء فيه:
أ-
خلل في عمل وزارة المالية، التي لا توثق مراحل عملها، ولا تفحص الانعكاسات الأمنية
لتوصياته.
ب- تجاهل الجيش والمؤسسة العسكرية للانعكاسات الاقتصادية لبرامجه على
الصعيد الأمني.
ت-
كثرة التغييرات الفورية في الميزانية، التي لا تعرض على الكنيست لإقرارها.
ث- الطاقم العسكري يفرض احتكارا على أبحاث ميزانية الأمن في الحكومة.
ج-
غياب دور فعال لديوان رئاسة الحكومة ومجلس الأمن القومي في تحديد ميزانية الجيش.
الكثير من الإسرائيليين يعتقدون أن الجيش يستخدم قوته للإعلان عن
التهديدات المتوقعة، للمحافظة على مظهره الحالي، كما أن قادته يشعرون أن الموازنة
التي يتم صرفها للمجال الأمني تعدّ حلا مريحا لدى مسؤولي وزارة المالية، ويقولون:
"هناك العديد من بنود موازنة الجيش تتطلب أموالا كثيرة، بدلا من الدخول في
عشرات النقاشات مع وزارات بسيطة، لا تحتمل أكثر من اعتبارات سياسية حزبية معقدة".
شكلت النفقات المالية لشؤون الجيش جانبا هاما من نفقات الدولة، وتكشف
المعطيات الإحصائية لميزانية وزارة الدفاع، التي تنشر كل سنة، جزءا صغيرا فقط من
العبء الحقيقي الذي تشكله الاحتياجات الأمنية لـ"إسرائيل" على اقتصادها،
يضاف إليها معطيات أخرى، بعضها ورد في نفقات الحكومة، وبعضها الآخر يعبر عن
التأثير غير المباشر للنفقات لأغراض أمنية على فروع اقتصادية أخرى.
علما بأن العيوب التي تثار بين الحين والآخر في عدم إفساح المجال
لمناقشة ميزانية الجيش تبدأ أسبابها من القوة النسبية التي تتمتع بها المؤسسة
العسكرية، والضعف الذي أصاب المؤسسات المدنية، وبالتالي فإن التدخل الوحيد الذي
تبديه وزارة المالية يتعلق بالحجم النهائي للموازنة، وزارة الدفاع من جهتها تستطيع
أن تفرض أمورا على الجيش، ولكن عند الحديث والمداولة بشأن إقرار الموازنة، فإنها
ترى نفسها عمليا ممثلة عن الجيش.
يبدي الاقتصاديون الإسرائيليون تذمرهم من "التكتم" الذي
يبديه الجيش على المعلومات الخاصة بصرف موازناته الباهظة، وفي حين أن العاملين في وزارة
المالية لا يمتلكون مصادر معلوماتية بديلة للتمكن من معرفة الاحتياجات الأساسية
للجيش، فهم لا يملكون صلاحيات الحديث عن موقفهم المستقل من استخدام الموازنة.
وهناك شعور متنام في المجتمع الإسرائيلي بأن الجيش يعدّ أكبر مبذر
للأموال في المؤسسات الرسمية في الدولة، ولا أحد يجرؤ على التدخل الزائد في طريقة
صرفه، وبحجة الأمن والأسرار العسكرية، تبقى عشرات البنود في الموازنة سرية، لا أحد
يعرف بدقة كيف تصرف، وإن كانت تصرف بالطريقة السليمة.
كما يتم النقاش حول موازنة الجيش بدرجة أقل من المهنية والتركيز، مع
أن العزلة التي يشعر بها الجيش تخدمه؛ لأنه يعني تفرده بالتحكم في مصادر
المعلومات، وفي ظل وجود جيش كبير كهذا، من الممكن إغراق الجميع في بحر من
المعطيات، أو على العكس تماما، من الممكن إخفاء جميع المعلومات عن باقي المؤسسات
والأجهزة، وهكذا لا يحظى الجمهور بالكثير من الامتيازات التاريخية التي يحظى بها
رجال الجيش، الذين يدفعون رسوما أقل في سلة الأمن الوطني، أو التأمين الصحي، ما
يضغط كثيرا على الجناح المدني في الدولة.
كما أن دافعي الضرائب ليسوا متيقظين لحقيقة أن الجنرال الذي يتحرر من
صفوف الجيش في الـ42 من العمر، يحصل على مستحقات التقاعد كاملة، أي أن ربع حياته
يقضيه خارج إطار الحياة العملية في الجيش.
وأشارت التقارير الدورية التي ترصد أداء الجيش إلى سوء الإدارة
المالية في مؤسساته وأجهزته، خاصة غياب مبادئ الإشراف والرقابة، ما أدى لإهدار
الكثير من الأموال، خاصة البند المتعلق بإدارة المتاحف التابعة للجيش، والطريقة
التي تم فيها إنشاء هذه المتاحف وأهدافها، لكن الجيش يدفع أجورا ورواتب تقاعدية
دون أي داع، إضافة للإهدار الحاصل في مركز البحوث النووية، فيما يتعلق بسياسة
الأجور والتقاعد.
الغريب
أن الجيش يضع معظم حالات إخفاقاته العسكرية على كاهل "قلة الموازنات"
وتراجع الموارد المالية، وهذا ما حصل في حملات الدفاع والتسويغ التي ساقها ضباطه
لتبرير فشلهم الذريع في الحروب الأخيرة، بدءا بوزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان،
ورؤساء الأسلحة المختلفة، البري والبحري والجوي، وجاءت الاتهامات موجهة لرئيس
الحكومة ووزارة المالية بقلة الموازنات، ما جعلها تطالب برفع موازناتها.
أخيرا.. هناك الكثير من المتغيرات التي تجري داخل الجيش الإسرائيلي من
نتاج عوامل مركبة ومرتبطة معا، وهي متغيرات بيئية يعمل فيها الجيش، وتؤثر على
سلوكه، ومن بين مجمل عناصرها ذات التأثير الكبير تبرز الاعتبارات المالية، التي
تتركز على التكلفة الاقتصادية النسبية لكل الإمكانيات المتوفرة، وتعتبر الاعتبارات
المالية كنظيرتها الميدانية جدية حين تستند لتحليل التكلفة مقابل الفائدة، أو
النفقات مقابل النتائج المحتملة، وبالتالي فإن لهذه الاعتبارات، بالمعنى الواسع
للكلمة، تأثيرا على التخطيط الاستراتيجي والعسكري.